كعادتهم، الفلسطينيون الغارقون في وحل الانقسام بلا مخرج يختلفون على كل شيء وتتضاءل مع التقادم قواسمهم المشتركة حتى بالقضايا الوطنية الجامعة لم تعد جامعة، والخطاب الجامع لم يعد جامعا، يستولدون خلافاتهم بقوة عجيبة، الاختلاف أصبح حادا أسود أو أبيض ولا شيء بينهما، وتلك واحدة من عوامل تآكل الشعوب أو غياب الاهتمام بمصيرها لصالح صغائر مناكفاتها كأولوية تعلو على كل الأولويات.
منذ زمن كف الفلسطينيون عن الفعل السياسي ليس فقط بسبب عوامل الأزمة الداخلية، بل أيضا بسبب فعل إسرائيلي منظم اعترف به حزب الليكود في معرض رده على ادعاء لابيد في الأمم المتحدة تأييده لحل الدولتين.
قال الليكود إن «لابيد يعيد القضية الفلسطينية بعد أن أسقطها نتنياهو عن جدول الأعمال الدولي» لذا يبقى الخطاب السنوي في الأمم المتحدة هو الفعل السياسي الأبرز في ظل انحدار القضية نحو تحسين الشروط المعيشية والتي بات يتكفل بها على مستوى الضفة وغزة الوسيطان القطري محمد العمادي والأميركي هادي عمرو.
لا يمكن التقليل من الخطاب كأبرز مرافعة ممكن أن تقال أمام هذا المحفل السنوي بعد أن «أسقط نتنياهو القضية» عن جدول الأعمال سانده بذلك إدارات أميركية متعاقبة بديمقراطييها وجمهورييها، أن تعود لمحاكمة التاريخ المتوحش بدءا من النكبة ومذابحها وتشريد شعب وحروب طاحنة وعمليات سلام مزمنة تعرضت للخداع وقتل يومي للأطفال وشعب تحت الاحتلال وإحراج العالم وعلى رأسه القوة العظمى التي تصر على استمرار قيادتها للعالم بهذا الاختلال في ميزان العدل، وأن تَسخَر من كل هذا لأن التاريخ يَسخَر نفسه أصلا في ظل عالم كهذا.
وإذا كان الخطاب قد حمل العديد من الجمل المفتوحة والتي تتسع لخيارات متعددة ما بين التعامل مع إسرائيل كدولة احتلال ونزع صفة الشريك ولكن هذا يحتاج إلى ترجمة مختلفة عما هو سائد في العلاقة القائمة بين الطرفين إذ تركها مبهمة، ربما ارتباطا بلحظة دولية لم تتسع للفعل الفلسطيني الذي عادة ما تتآمر عليه كل الأحداث الكونية.
فالحرب في أوكرانيا باتت الملف الأبرز الذي يدفع بكل القضايا للوراء، ولسوء حظ الفلسطيني الذي أعطى العالم مهلة عام ظناً منه أن اللحظة ستكون بانتظاره ليكتشف أن التاريخ الماكر وضع أمامه هذا اللغم الكبير.
اعتراضات المعارضة الفلسطينية وخاصة حركة حماس تشبه كل الحالة العابثة فقد ردت «بأن الاستيطان لن يتوقف بعد الخطاب «ما هذا ؟ وربما أن هذا العبث أحيانا يستدعي من يرد بأن الحصار أيضا لن يرفع عن غزة بعد الحروب ولا طوال حكم الحركة في استمرار للملهاة الفلسطينية التي لم تعد ترى في الخصم الداخلي سوى عدو ينازعها على الفضاء العام، وهذا كل ما لديها بعد أن أصيبت الحالة بهذا القدر من الفراغ باتت تنشغل بمناكفاتها دون أن تنظر لحركة التاريخ ومكانها. فالاستيطان والحصار وكل روافع القضية لن تكون إلا بالخروج من صغائر الانقسام ورفع مستوى اللغة السياسية التي باتت تهبط إلى حد مخجل.
الأمر هنا يستدعي دوما قراءة مختلفة لا تصلح معها المواقف القاطعة تأييداً ورفضا وفي السياسة دوما هناك ما يمكن تسميته اللحظة التاريخية التي تقرر صوابية أو خطأ الممارسة السياسية كما قال أحد فلاسفة السياسة «بالأمس مبكرا وغدا متأخرا» الآن ...فالقرار أو الموقف تكمن صوابيته في علاقته باللحظة والمناخ والظروف وقدرة القيادة على التقاطه في موعده. فخطاب الرئيس كان أفضل ما يقوله الفلسطيني من على منبر الأمم المتحدة بما حمله من سرد للتاريخ مصحوبا بهذا القدر من عاطفة الألم وانعدام الأمل.
لكن أغلب الظن أن الخطاب تأخر عن لحظته التي أفلتت وتلك أزمة السياسة والطواقم التي تخطط منذ سنوات وهي تتأخر عن اللحظة ربما في العام 2014 عندما أغلق نتنياهو أي أمل بالتسوية وكذلك بالحرب كان يمكن إنذار العالم بعام وإلا ... وفي العام 2015 حين هدد المجلس المركزي باتخاذ إجراءات حينها كان يمكن أن يكون لها صدى لأن اللحظة كانت أكثر جاهزية، حينها كانت عاصفة الإقليم قد بدأت بالانحسار ولم يكن الوباء قد اقتحم البشرية ولم تكن حرب الغاز وانشغال أوروبا وكان نتنياهو بالسلطة كل شيء كان أفضل كيف لم ينتبه الفلسطيني وبدد كل تلك السنوات ؟ وأخشى أنه جاء متأخراً الآن حينها يصبح الفعل السياسي لا يجد حوامله التاريخية التي تتوفر في لحظة ما.
ومع ذلك تلك قضية حية وأثبت التاريخ أنها لا تموت وأن كل فعل التاريخ ومكره ومحاولات نتنياهو إنزالها عن المسرح الدولي يتكفل بها طفل من مخيم جنين يعيدها لدور البطولة على الخشبة.
وصحيح أن المجتمع الدولي مشغول لكن لا يمكن المراهنة على ظرف أفضل في ظل التسخين القائم واتساع رقعة المصالح ...كان يمكن أن تعلن الدولة تحت الاحتلال، وهذا كان يشكل حلا وسطا لا يهدم المعبد ولا يبقيه قائما يلبي مصالح الخصم ويؤمن له «احتلال سوبر ديلوكس» ويمول احتلاله من جيب دافع الضرائب الفلسطيني.
بالتأكيد لا يمكن أن يستمر هذا وخاصة أن الميدان بات يغلق على هذا الخيار ليس بفعل الرغبة بل بفعل السياق الطبيعي للأشياء وإن لم تقرأه إسرائيل على الفلسطيني أن يقرأه باجتهاد لأن ظرفه لا يحتمل التأخر في قراءة اللحظة والتقاطها.
لم تفت اللحظة كثيرا ولأن العالم سيتجاهل كعادته شكوى الفلسطيني وسيفرك الأميركي يديه فرحا لأنه اجتاز لغم الخطاب بسلام ويعود مشغولا بمعاركه الدينكيشوتية بالعواصم من بكين وموسكو وكييف كلها ما عدا القدس، وهذا ما يستدعي اجتماع المؤسسة الفلسطينية للذهاب نحو خيارات منها وضع فلسطين تحت الاحتلال فهذا قرار فلسطيني ربما ...ربما يدفع العالم لحساب ما ...ولو لم يكن يحسب لما مارس كل تلك المناورات والضغوط لتخفيف الخطاب وحتى لا يقولها الرئيس ولما قال لابيد إنه مع حل الدولتين في ذروة معركته الانتخابية ...إنهم يحسبون، وفرصة الفلسطيني أن يضع الحسابات أمام الحقيقة حتى لا يتأخر أكثر.