خطاب الرئيس والقرار 181

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د  عاطف أبو سيف

 

 

 

كالعادة، شكل خطاب الرئيس مرافعة قانونية وتاريخية عن حقوق شعبنا وتعرية لأكاذيب الصهيونية وفضحا لجرائمها، غير أنه هذه المرة حمل تفاصيل أكثر عن ممكنات حرف كل التوجهات القائمة على حل الدولتين على أساس حدود الخامس من حزيران. الخطاب أشار بوضوح للقرار 181 أي قرار التقسيم كأساس يمكن البناء عليه في تصور أي حل مستقبلي في ظل انسداد الأفق وعدم المقدرة للتوصل إلى حل على أساس القرارات اللاحقة مثل 242، غير أن الخطاب أشار بوضوح إلى تقلص فرصة تحقيق حل الدولتين وفق "البرادايم" (النموذج) الذي كان يسعى لتحقيقه طوال العقود الثلاثة الماضية، بل يمكن اعتبار أن الإشارة إلى هذا "البرادايم" لم تعد قائمة بطريقة أو بأخرى.
لقد تم وضع القرار 181 في أدراج السياسة ولم تتم الإشارة إليه إلا في القليل من الوثائق السياسية وربما في بعض المرافعات التاريخية لكن لم يتم توظيفه فلسطينياً بشكل بنّاء في تحصيل الحقوق الوطنية. القرار الذي لم تقبل به القيادة السياسية للشعب الفلسطيني في ذلك الوقت قبل وقوع النكبة بعام والذي اتخذته الصهيونية أساساً قانونياً لبناء دولتها بعد سرقة بلادنا وتقدمت للحصول على عضوية الأمم المتحدة وفقه، القرار ذاته الذي قرر الفلسطينيون أنه لا يصلح للنقاش. وبعيداً عن بعض النظرات العابرة للقرار والإشارات الخجولة له إلا أنه ظل منسياً في أدراج الساسة الفلسطينيين لاعتبارات كثيرة. فهو من جهة يشكل في وقته استسلاماً لم يكن ثمة حاجة له وتسليماً بقرابة نصف أرض الآباء والأجداد للأغراب. وعليه لم يكن هناك من كان مستعداً للتفكير في التعاطي مع القرار، بل إنه اعتبر شؤماً آخر مثل  وعد بلفور. لاحظوا أن المرافعة التاريخية للرئيس أبو مازن في هذا الخطاب بمتانة أشارت إلى تلك القرارات والوعود وصاغت منها رواية فلسطينية قوية قادرة على تقديم جملة حقوقنا بمنطق وصلابة. وبشكل عام فإن قرار التقسيم بنظر الفلسطينيين لم يكن إلا خيانة أخرى من المجتمع الدولي وطعنة جديدة في خاصرتنا من اجل تسليم البلاد للصهيونية. وهذا كله صحيح.
فلم يكن المجتمع الدولي وقتها يفكر فينا ولا كان يفكر كيف نحصل على حقوقنا. كل هم اللاعبين الكبار فيه هو كيف يمكنون الحركة الصهيونية من فلسطين وكيف يمنحونهم أرضنا ويساعدونهم في طردنا. لذلك فإن خطاب الرئيس أشار بوضوح إلى تآمر تلك القوى. وربما لا يمكن التخفيف من وقع ما فعلت إذ إنها شريكة أساسية في الجريمة وأي دعوة قضائية ضد العصابات الصهيونية ووريثتها دولة الاحتلال يجب أن تشمل دعاوى على هذه القوى الظالمة. المجتمع الدولي حين جلس حول طاولة الظلم في نيويورك كان يفكر في تقسيم فلسطين من أجل أن يمنح العصابات الصهيونية جزءاً من البلاد تستطيع بعد السيطرة عليه أن تستولي على البقية الباقية. وهذا ما حدث. لذا فإن القبول بالقرار فلسطينياً لم يكن وارداً. كان يعني الوقوف على الضفة المعادية لمسار التاريخ الوطني. في المحصلة فإن العالم تآمر على الشعب الفلسطيني، وكان وقتها العالم عبارة عن "شلة" الدولة الاستعمارية. بل إن بعض المستعمرات تم منحها الاستقلال قبل التصويت بأشهر من أجل أن تقوم بالتصويت لصالح تمزيق أرض فلسطين. ما أرمي إليه هنا أنه من الصعب تحليل الماضي بلغة اليوم، ومن الصعب القول، إنه كان يجب القبول بالقرار الجائر إذ إن القرار وقتها كان يعني التسليم بسرقة البلاد وشرعنة ذلك. وعليه فإن القرار ظل بالنسبة للنخبة السياسية لعنة لا يمكن التسليم بها.
لكن يظل السؤال قائماً حول الاستمرار في تجاهل القرار 181 كأساس لأي حل بعد ذلك. بعد هزيمة العرب العام 1967 واحتلال بقية أراضي فلسطين بجانب بعض الأراضي العربية بدأ الحديث عن الحل المرتقب والممكن بين الدولة التي بنيت على أنقاض الشعب الفلسطيني وفي أرضه وبين الشعب الذي أرادت وقتها أن تبيده بشكل نهائي ويختفي. فجأة المجتمع الدولي بدأ يتحدث عن القرارات التي تلت هذا الاحتلال أي تلك التي تدعو دولة الاحتلال للانسحاب من الأراضي التي احتلتها العام 1967. وحين بدأ البحث عن الحل السلمي برزت إقامة الدولة الفلسطينية على هذه الأراضي.
ما الذي حدث تحديداً؟
فجأة، تم اعتبار أن بداية الصراع هي احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة. كأن لم يكن شيء قبل ذلك، وكأن وجود تلك الدولة كان طبيعياً وكأن القرارات الأممية التي سبقت هذا الاحتلال لم تعد صالحة. بعبارة أخرى، نجح المجتمع الدولي في خلق "تطبيع" على مستوى الوعي مع الظلم الذي تم العام 1948. بات وجود إسرائيل أمراً لا يمكن مناقشته بل هو حقيقة مثل وجود بريطانيا وفرنسا. ما جرى أن حرباً جرت بين إسرائيل وجيرانها العرب مثل أي حرب أخرى قد تكون حدودية في أفضل الأحيان ويجب تسوية الأمر. لذلك تم اختراع أكاذيب دولية جديدة أساسها القرارات الجديدة.
هذا من جانب المجتمع الدولي، أما من جانبنا كفلسطينيين فكأننا وقعنا في الفح وصرنا لا نفكر إلا كيف يمكن تحقيق الدولة الفلسطينية على هذه الأراضي التي احتلت العام 1967. في الحقيقة، لم نقع في الفخ بشكل ما كما قد تشير العبارة السابقة، لكننا وجدنا أن أسلم طريقة من أجل أن نجد لنا مكاناً على الخريطة أن نتحدث مع العالم بلغته. طبعاً هذه مقاربة لا تروق للكثيرين وربما لا تروق لي على المستوى الشخصي لكنها ظلت ناجعة في نظر الكثيرين وحققت بعض النجاحات في الحفاظ على وجود القضية حاضرة في ظل رغبة البعض ابتلاعها من خلال سرقة التمثيل الفلسطيني. لذلك لم يتم طرح القرار 181 كأساس أي حل مع دولة الاحتلال رغم أنه القرار الأممي الوحيد الذي يشير إلى وجود دولة عربية أي دولة للفلسطينيين ويربط قيام دولة اليهود بقيام دولة العرب.
لذلك تبدو إعادة الاعتبار للقرار 181 ليس لكونه يعيد لنا حقوقنا، فحقوقنا لا تعاد بكل القرارات، ولكن لأن قيام الدولة الفلسطينية يجب ألا يرتهن بقرار بعينه وحدود بعينها.