مع حلول الذكرى التاسعة والعشرين لاتفاقية أوسلو، يتجدد الجدل حول الاتفاقية، بين من يراها كارثة ونكبة، ومن يراها إنجازاً ونواة دولة.. على أي حال هذه مناسَبة لإعادة قراءة الاتفاقية ونتائجها على ضوء الواقع الراهن.
في تسجيل على اليوتيوب يقول «ياسر عرفات»: «إذا كان لأحدكم اعتراض واحد على «أوسلو»، فأنا لدي مائة اعتراض». وبعد رحيل عرفات اجتمعت قيادات السلطة في أكثر من مناسبة وأقرت بفشل «أوسلو» ووصولها إلى طريق مسدود؛ لذا من العبث أن يدافع أي كاتب عن «أوسلو»، أو أن يعدد مناقبها؛ ولكن الأكثر عبثية أن نظل في دائرة صب اللعنات على الاتفاقية، وتعداد مساوئها.
مشكلة أغلب المحللين السياسيين (مؤيدين ومعارضين) أنهم يقرؤون الأحداث من زاوية واحدة، أو بمنهج المؤرخ، أو يقعون في مغالطات منطقية.. وهناك منهج عبثي آخر يتخذه بعض المنظّرين: أثناء الحدَث يتبعون طريقة «قل كلمتك وأمشِ»، وبعد مرور الزمن يقيّمون الحدث على طريقة «ألم أنصحكم؟»، وأحياناً يتمنون الهزيمة أو الفشل حتى لا يخسروا رهانهم.
أولاً: إذا أردنا فهمَ «أوسلو» يتوجب بداية فهمُ الدوافع السياسية التي أفضت لتوقيع الاتفاق، أي من وجهة نظر فلسطينية وإسرائيلية.. وثانياً: منهج المؤرخ لا يفيد السياسي والثائر، لأن التاريخ مضى وانقضى ولا يمكن تغييره، والبقاء فيه لا يعني سوى البكاء على الأطلال، وتقديم المراثي الحزينة، وهذا لا يفيدنا بشيء.. وثالثاً: حتى لا نقع في فخ المغالطات المنطقية، لا يجوز قراءة «أوسلو» بمعزل عن الظرف السياسي والتاريخي الذي أحاط به آنذاك، والأهم أن نطرح الأسئلة بطريقة صحيحة.
وعند النقطة الأخيرة تحديداً، تبرز إشكاليتان: نطرح أسئلتنا منطلقين من أحكام مسبقة، ثم نربط كل الأحداث والوقائع التي حصلت بعد 1993 بأوسلو، باعتبارها هي المسبب الوحيد، وبالتالي نعلّق عليها كل شيء. وللتوضيح، هنالك مغالطة منطقية في الربط بين السبب والنتيجة، وبين تتالي الأحداث زمنياً، فعلى سبيل المثال، بعد انتشار الأسلحة النووية زادت معدلات الإجهاض، وأمراض القلب، وحوادث السيارات، وتفاقمت أزمات اقتصادية عديدة، وحصلت انقلابات عسكرية في العديد من البلدان، وظهرت تداعيات التغير المناخي.. وهذه كلها حصلت زمنياً بعد اختراع الأسلحة النووية، لكن أسبابها مختلفة كلياً، ولا علاقة بين الأمرين.
بعد اتفاق أوسلو تعقد المشهد السياسي، وانسدت آفاقه، وتعثر حل الدولتين، وتوقفت المفاوضات، وصار الانقسام، وتعطلت المصالحة، وتفاقمت الأزمة المالية للسلطة، وفقد الشعب ثقته بها، وما زال الاحتلال جاثماً فوق صدرونا، واللاجئون ما زالوا منفيين، والقدس تهوّد معظمها، والمستوطنات قضمت أطراف الأرض، وحلم التحرير والاستقلال صار أبعد، والمنظمة أضعف.. وهذا كله صحيح للأسف، ولكن هل كان السبب «أوسلو»؟ أم هناك أسباب أخرى؟
قبل «أوسلو» كان هذا كله في رحم الغيب، وتصوره كان ضرباً من التشاؤم. ولكن ماذا لو طرحنا السؤال بطريقة معكوسة: أي لنتخيل الوضع الفلسطيني، والمسارات التي سنسلكها.. دون «أوسلو».
كيف سيكون وضع المنظمة؟ وأين ستقيم؟ وكيف ستتحرك؟ وكيف ستتواصل مع شعبها؟ في ظل الحصار العربي والدولي، وتجفيف مواردها، ومحاولات عزلها، وتدمير بنيتها العسكرية.. هل ستصمد؟ أم ستتحول إلى «مجاهدي خلق» جديدة؟
كيف سيكون وضع الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة، بعد أن استنزفتهم الانتفاضة، وانتهت إلى حالة من الفوضى؟ هل ستتحول إلى عشائر وأحزاب متناحرة؟ أم ستنهض من جديد؟
لست معنياً بالدفاع عن «أوسلو»، ولا مهاجمتها، بل أطرح الأسئلة التالية: هل كانت «أوسلو» ممراً إجبارياً؟ أم مغامرة تاريخية؟ أم مؤامرة؟ أم ورطة؟ وماذا جنينا منها؟
من السهل علينا الآن أن نقول «أوسلو» فشل، وأنه كان خياراً كارثياً، ولكن، باعتقادي أن «أوسلو» مثلت فرصة تاريخية كان ممكناً لنا تطويرها، والبناء عليها، لكننا لم نفعل ذلك.. هل كان الخطأ بداية أن القيادة أفرطت في التفاؤل، وراهنت على الشعب بمغامرة تاريخية؟
ما حدث بعد «أوسلو» كان معاكساً تماماً لكل التوقعات وكل الرهانات.. لكن أحداث التاريخ ليست قدراً محتوماً.. كان الفضاء السياسي للمنطقة يتسع لكل الاحتمالات، وكان كل شيء مرهوناً بالأداء من ناحية، وبتطور أحداث قريبة وبعيدة ستؤثر بشكل أو بآخر على المنطقة من ناحية ثانية.
صحيح أن إسرائيل تعمدت إفشال «أوسلو»، وتنكرت لها، ولم تلتزم ببنودها، وأن أميركا دعمتها بانحياز سافر، وأن المجتمع الدولي خذل الفلسطينيين، وأن قوى التطرف على الجانبين نجحت في إفشال التسوية السياسية.. هذه أسباب مهمة، لكن هناك أسباباً لا تقل أهمية تتعلق فقط بأداء الفلسطينيين ( نخباً، وفصائل، وقيادات، ومؤسسات، وأفراداً..).
سياسياً: تأسست سلطة وطنية تمتلك كافة مؤسسات الدولة وتقدم خدمات حيوية للشعب، بما يساهم في تعزيز صموده، لكن هذه الخيارات على أهميتها، كانت تنطوي على مغامرة غير مضمونة النتائج، وكانت تعني تغييراً في استراتيجية الثورة الفلسطينية، وتخليها عن الكفاح المسلح، وتغيير تكتيكاتها المرحلية، بحيث تصبح الأولوية لقضايا التنمية والبناء بكل تفاصيلها وتفرعاتها المعقدة، على حساب قضايا التحرير والمقاومة، وكانت تعني أيضاً تحول الفصائل الفدائية إلى أجهزة أمنية، وأن الثورة ستحصر نفسها في عرين الأسد، وستضع كل بيضها في سلة واحدة، وستكون مرهونة للدول المانحة، وستكون مجبرة على التنسيق الأمني، ولن تتمكن من الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي.
لكن «أوسلو» نفسها ليست المسؤولة عن ضعف السلطة، ومظاهر الفساد، والشللية، والفوضى والفلتان الأمني.. هذا كله بسبب الأداء المرتبك، وسوء الإدارة، وانعدام التخطيط.
«أوسلو» ليست سبب تراجع دور الفصائل الوطنية، وتهميش منظمة التحرير، وتحويل فتح إلى حزب حاكم، هذا بسبب القيادات وترهلها، وسوء تقديرها، وتهافتها على المصالح الحزبية والشخصية.
«أوسلو» ليست سبب الانقسام، الانقسام الذي يعادل بخطورته نكبة فلسطين 48 حصل لأن «حماس» أرادت ذلك، واستمر الانقسام لنفس السبب، ولأن قيادات مؤثرة في طرفي الانقسام مستفيدة منه، ولا تريد إنهاءه.
تزايد وتيرة الاستيطان ليست بسبب «أوسلو»، بل بسبب تغير في بنية وطبيعة نظام الحكم في إسرائيل، أي صعود اليمين القومي والديني، واعتماد النيوليبرالية، والتخلي عن «دولة الرفاه»، واستمراراً لعقيدة التوسع الصهيونية، وسياسات الضم الزاحف، والترانسفير البطيء.. وأسباب أخرى مرتبطة بالشأن الإسرائيلي الداخلي.. ولو لم تكن «أوسلو» بما تعنيه وجود سلطة وطنية لاستمرت نفس سياسات الاستيطان والتهويد والضم والترانسفير وبوتائر أسرع، ودون منغصات.
فإذا كان «أوسلو» كارثة، ومؤامرة خطيرة هدفها تصفية القضية؛ فلماذا سعت إسرائيل وأميركا لإسقاطها؟ فطالما أنها تخدم أهدافهم، لماذا أفشلوها بالفعل!