لم تبقَ روسيا، رغم تحولات حربها مع الغرب في أوكرانيا، خاصة خلال الأسابيع الأخيرة في محيط خاركوف بالتحديد، في موقع من يتلقى الضربات، أو من ينتظر مبادرة العدو، ليرد عليها، بل سارعت إلى الإمساك بزمام المبادرة السياسية، ورغم أن الحرب تدور في ساحة قتال عسكرية، ورغم أن ساحتها الأوسع هي الاقتصاد العالمي، إلا أن أبعادها سياسية أولا وأخيرا، ورغم معارضة الغرب، بل ورغم التحذير الأميركي والإعلان الأوروبي الصريح بأن الغرب لن يعترف بنتائج الاستفتاء أيا تكن، إلا أن روسيا ذهبت بعيدا، ونثرت صناديق الاقتراع في المقاطعات الأوكرانية الأربع التي سيطرت عليها بالكامل منذ بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط الماضي، أي منذ أكثر من سبعة أشهر.
ويبدو أن موسكو تدرك جيدا أن الغرب وخاصة أميركا يسعى إلى توريط روسيا في الوحل الأوكراني لعدة سنوات، يجري خلالها انهاك الاقتصاد الروسي، بحيث تنتهي بإعادة احتواء الغرب لروسيا، كما سبق لها وفعلت غداة تفكك عقد الاتحاد السوفياتي وتولي بوريس يلتسين مقاليد الحكم في موسكو، وروسيا التي تعرف تاريخ حروبها مع الآخرين جيدا، وتعرف أنها حين يتعلق الأمر بالدفاع عن الأرض الروسية فإن شعبها يبلي بلاء حسنا، وأنصع دليل على ذلك مواجهة السوفيات للنازي الألماني، حيث قدموا 28 مليون ضحية، لكنهم انتصروا وهزموا من سبق له أن احتل فرنسا ومعظم أوروبا، وعزل لندن عن العالم في الحرب العالمية الثانية، أما الدرس المضاد فآخره كان الوجود العسكري في أفغانستان، حيث نجحت جماعات المجاهدين بالأسلحة الخفيفة في دحر الجيش الروسي في الدولة الآسيوية المجاورة حين كانت محكومة بنظام شيوعي.
أي أن روسيا كانت على عكس الغرب تسعى لشن حرب خاطفة، لذا سمتها عملية عسكرية، حددت أهدافها بنزع الخطر الذي يمثله نظام أوكراني معادٍ لها، يقوم بتصنيع الأسلحة البيولوجية، وفتح البلاد للأميركيين، ليكونوا على الحدود الروسية، ويبدو أيضا أن موسكو تسعى إلى تجنيب قواتها الغازية التواجد في العراء خلال الشتاء القارس، حيث يمكن أن يتعرضوا لما تعرضت له من قبل جيوش نابليون وهتلر. لهذا نقول إن إجراء الاستفتاء في إقليم دونباس بمقاطعتيه لوغانسيك ودونيتسك، ومقاطعتي خيرسون وزاباروجيا، والذي انتهى كما كان متوقعا بالطبع بتصويت المقترعين بنسبة عالية لصالح الانضمام للاتحاد الروسي، رغم أن السؤال الموجه للمواطنين المشاركين في الاستفتاء في دونباس كان غير ذلك الذي تم توجيهه في مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا، حيث كان السؤال الذي تم توجيهه في دونيتسك ولوغانسيك صريحا وواضحا، وفحواه: هل تؤيد الانضمام للاتحاد الروسي ؟ أما في زاباروجيا وخيرسون فكان: هل تؤيد الانفصال عن أوكرانيا وتحويل المقاطعة إلى دولة مستقلة والانضمام إلى روسيا ؟
قد يكون السبب في ذلك الاختلاف هو أن مقاطعتي دونباس، دونيتسك ولوغانسيك، سبق لهما أن أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا وإقامة دولتين شعبيتين مستقلتين، اعترفت بهما روسيا في الأيام الأولى لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، لكن يبدو أن الفارق كان شكليا، فالسؤال في الحالتين كلتيهما ينتهي بالانضمام إلى روسيا، وهذا ما سيكون خلال أيام، بعد الرد الرسمي الروسي على مطالبات انضمام الأقاليم المذكورة للاتحاد الروسي التي تقدم بها قادة الإقليم فورا بعد إعلان نتائج الاستفتاء.
بعد انضمام هذه المقاطعات لروسيا، تكون أوكرانيا قد فقدت خمس مساحتها، أي نحو مئة ألف كيلومتر مربع، وخسرت خمس سكانها، أي نحو ثمانية ملايين نسمة، ومساحة الجغرافيا وعدد السكان يشكلون دولة شرق أوسطية، وكذلك تكون أوكرانيا قد خسرت 30% من إنتاجها الزراعي، ومعظم مخزون الفحم، أو 70% منه، ذلك الموجود في دونباس، كذلك تكون قد خسرت أكبر مجمع معامل طاقة نووية في أوروبا، ذلك الموجود في زاباروجيا، وتكون قد خسرت أهم مصنع لديها لصناعة السفن، وهو خيرسون.
أما روسيا فتكون قد حققت تواصلا جغرافيا، يحرر القرم الذي ضمته العام 2014، من تواصله معها عبر جسر فقط، ويكون بحر أزوف قد تحول إلى بحيرة روسية، وفيما تكون أوكرانيا قد خسرت الكثير من شواطئها على البحر الأسود، تكون روسيا قد ضمت شرق وجنوب أوكرانيا لها، وتكون قد تمددت بحدودها في تلك المنطقة.
وبالطبع فإن روسيا بعد ذلك لن تتجاوز حدود تلك المقاطعات، ما يعني أن الحرب لجهة كونها عدوانا روسيا على أوكرانيا قد انتهت، وأن روسيا بعد ذلك تدافع عن مواطنيها وأرضها، في مواجهة أي محاولة أوكرانية مدعومة من الغرب لإعادة تلك الأراضي، وعلى الأقل روسيا ستقول للمجتمع الدولي إن إرادة الناخبين/المواطنين هي التي حددت مكانة تلك المناطق، وليست القوة العسكرية، مع ملاحظة هنا أن نزوح المواطنين الأوكرانيين ساهم في التصويت لصالح الانضمام لروسيا، حيث إن من بقي في تلك المقاطعات، هو إما من المواطنين ذوي الأصل الروسي أو المختلط، أو من المؤمنين بالوحدة بين البلدين، أو على أقل تقدير من المؤيدين لحسن الجوار.
على الأغلب، أو وفق تقديرنا فإن روسيا من جهتها ستكتفي بهذا القدر من الحرب، وقد تعلن انتهاء عمليتها العسكرية في أوكرانيا، بما يؤكد أنها لم تكن تنوي أصلا احتلال كامل أوكرانيا، ولا حتى إسقاط نظام حكمها، لكنها في حقيقة الأمر دمرت معظم البنية التحتية، والكثير من القوة العسكرية الأوكرانية، فضلا عن إلحاق الضرر بالاقتصاد الأوكراني، الذي لن تعوضه المساعدات الغربية، التي في معظمها هي عتاد عسكري ودعم عسكري بهدف إطالة أمد الحرب، واستنزاف الدولتين الجارتين، بهدف وضعهما معا أو كليهما في الجيب الغربي.
لكن أوكرانيا لن توقف الحرب، وستواصل القتال على أساس أنها لا تعترف بنتيجة الاستفتاء، وسيقول هذا الغرب، وإن بدرجات متفاوتة، نقصد أن إعلان موسكو بعد ذلك عن انتهاء عمليتها العسكرية، سيكون مبرراً لبعض دول أوروبا التي لا تحتمل مقاطعة النفط والغاز الروسي، لأن تطالب بعودة التبادل التجاري مع روسيا، وعدم مشروعية استمرار العقوبات الاقتصادية ضدها. فيما أقصى ما يمكن أن يفعله الأميركيون بعد ذلك هو تحويل ما تبقى من أوكرانيا إلى قاعدة عسكرية أميركية، وربما محاولة الاعتماد على افتعال «مقاومة» داخل تلك الأقاليم التي ستظل تقول عنها محتلة من قبل الروس، لكن على الأغلب ذلك لن ينجح، بل إن التدخل العسكري الغربي المباشر وإن كان بالأصل مستبعداً، صار مع تحول تلك المقاطعات لأرض روسية مستحيلاً، لأنه سيجر إلى حرب نووية، يشكل فيها السلاح النووي الروسي رادعاً بلا شك.