«الوحش» بكامل ملامحه: هكذا تعمل إسرائيل من أجل سحق الفضاء الفلسطيني!

حجم الخط

بقلم: عميره هاس


يتناقض جنون الحملات الانتخابية بوتيرة إيطالية مع استقرار سياسة إسرائيل في الضفة الغربية. القصد هو السياسة التي تقسم الأراضي الفلسطينية منذ احتلالها في العام 1967 إلى أكبر قدر من الجيوب الفلسطينية الصغيرة، المحاطة والمنفصلة عن بعضها، من خلال أكبر قدر من الكتل الاستيطانية لليهود فقط، الآخذة في التوسع والمربوطة بإسرائيل بشبكة شوارع تتحسن باستمرار.
سحق الفضاء: هذا هو التصعيد الأول والأساسي، الثابت والمكتوب مسبقا في خطط الحكومة. كل فلسطيني شاهد عليها ويعيشها على جسده. الإسرائيليون – اليهود يتجاهلونه من خلال جهل متعمد وعدم اكتراث، لأنهم يكسبون منه. هذه هي أم كل التصعيدات، التي يتلقى كل قنصل في الاتحاد الأوروبي وفي السفارة الأميركية في القدس عنها تقارير متواصلة، لكن تتم ترجمتها من قبل رؤسائه في وزارات الخارجية المختلفة إلى شعارات، "نعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". أيضا تتصاعد السخرية الدبلوماسية.
وسائل الإعلام لدينا منشغلة بحماس في الأمور التافهة والعابرة مثل استطلاع الانتخابات الأخير، وفي تكرارها المرهق للشعار العسكري – الاستيطاني بشأن التصعيد في جنين. الأساس هو ألا تنشغل بالأمر الأساسي: التقسيم المحسوب والمخطط الذي ينفذه الكثير من الإسرائيليين بنجاعة عملياتية باردة ومقننة ومغلفة بدعاية ذكية ومتذاكية وبابداعية إيمانية جيدة التمويل. الإفساد الجيوغرافي – الديمغرافي – الأخلاقي للفضاء الفلسطيني يتم تنفيذه في وضح النهار.
الأسرلة تغذ الخطى، ضواحٍ فاخرة تغرق باللون الأخضر، ولافتات في مفترقات الطرق عليها إعلانات عن فيلات يمكن الحصول عليها، ودوائر حركة جديدة ومجمعات تجارية تتميز بأجواء عائلية تحول البلدات الفلسطينية إلى ديكور ثنائي الأبعاد أو يخفونها خلف بوابات حديدية وطرق مرتفعة وطرق مغلقة ولافتات "الدخول ممنوع للإسرائيليين". التخطيط القطري الإسرائيلي يصرخ بعدم ضرورة وجود الفلسطينيين والتفوق غير المختلف عليه لسكان المستوطنات اليهودية في الحاضر وفي المستقبل.
هنا وهناك تنشر تقارير في "هآرتس" وفي موقع "محادثة محلية" عن أعمال اغتصاب قُطرية تنفذها إسرائيل. ولكن 2 – 3 تقارير في الشهر، أو حتى في الأسبوع، لا تعكس حجم الظاهرة أو وتيرتها أو تسلسلها. من اجل استيعاب التدمير الموجود في التخطيط الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية يجب أن نربط بخطوط الحقائق التي وضعتها جميع حكومات إسرائيل طوال السنين في كل مرة من جديد بآلاف النقاط، بل ملايين النقاط:
- بدءا بالأمر العسكري من العام 1971، الذي ألغى صلاحيات التخطيط للمجالس المحلية الفلسطينية، والذي هو ساري المفعول حتى الآن في 60% تقريبا من أراضي الضفة، ومصادرة الأراضي للاحتياجات الأمنية والتي تم تحويلها للمستوطنات التي تنتهك القانون الدولي، وحظر البناء والتطوير الذي فرض على الفلسطينيين، والشوارع التي تبتلع البيئة والأراضي الزراعية التي تمت مصادرتها للاحتياجات العامة لصالح كل مستوطنة معزولة.
- مرورا بمنع الفلسطينيين، بذرائع ووسائل مختلفة، من الوصول إلى أراضيهم طوال سنين، وتقييد كمية المياه للفلسطينيين، وتقييد الحفريات الجديدة والإعلان عن مئات آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية بأنها "أراضي دولة" وتخصيص هذه الأراضي فقط لليهود، والإعلان عن مناطق تدريب من اجل وقف تطوير قروي طبيعي فلسطيني، وتزوير وثائق ملكية الأراضي، والبؤر الاستيطانية الكرفانية التي تتحول إلى فيلات، ومن اجل الأمن يجب منع الخروج من القرى المجاورة، والبؤر الاستيطانية الزراعية التي تغرس الكروم في الأراضي الفلسطينية وكأنها مهجورة، والبؤر الاستيطانية للرعاة الذين هم الموضة الجديدة والأكثر صغرا مقارنة بمساحة الأراضي الفلسطينية.
- وانتهاء بقرارات حكومية لتبييض كل ذلك، وعائق الفصل الذي يحتجز مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية الخصبة غربه: أصحاب هذه الأراضي يحصلون بصعوبة على تصاريح من أجل الوصول إليها في أوقات محددة، ولكن كل إسرائيلي يمكنه التنزه والتجول فيها كما يشاء، واحيانا أن ينسبها لنفسه.
يجب أن نربط كل نقطة كهذه بالنقاط الأخرى. وإلا فإنه لا يمكن فهمها وفهم تداعياتها. وإلا فإننا لن نرى الوحش كله.
يمكن، مرة تلو الأخرى، حساب عدد الدونمات الكبير التي سيطرت عليها بؤر الرعاة الاستيطانية، ويمكن حساب كم هو عدد الدونمات التي تمت مصادرتها، رسميا أو فعليا، من "المناطق" الفلسطينية، ووصف أسنان الجرافات التي تقتلع أشجار الزيتون القديمة والجديدة. ويمكن قياس المنطقة الزراعية الفلسطينية المتميزة بدقة تقريبا مع الآبار القديمة وينابيع المياه التي أصبحت ذخرا عقاريا لليهود ورئة خضراء خالية من العرب (باستثناء العمال) أو في الطريق إلى أن تصبح خالية من العرب.
لكن يجب أن نربط، مرة تلو الأخرى، جميع النقاط كي نفهم كيف امتلأت الأرض بكتل (غوش شيلو، غوش عتصيون شرقا، غوش عتصيون غربا، غوش عتصيون شمالا، غوش ريحان وجيب اللطرون، غوش تلمونيم، غوش اريئيل، غوش ريمونيم، غوش حبرون القديمة وكريات اربع)، وبعد قليل سيكون هناك (غوش شمال الغور وغوش شمعة في جنوب غربي جبل الخليل وغوش سوسيا في جنوب شرقي الضفة، وهكذا دواليك). لا شك أن آمال/ مخططات اسحق رابين من العام 1995 قد تحققت. قبل قتله بشهر، قال في الكنيست، إن أحد أسس الاتفاق الدائم هو "إقامة كتل استيطانية، يا ليت أنه كان يوجد كتل استيطانية في الضفة الغربية مثلما في (غوش قطيف)". "غوش قطيف" في الواقع تم تفكيكها، لكن قام ويقام مكانها المزيد من التوابع الاستيطانية الكثيرة مثل الرمال على شاطئ البحر.
إضافة إلى التقارير المتواصلة في الصحف الفلسطينية فإن منظمات إسرائيلية مثل (كيرم نبوت وبمكوم وعير عاميم والسلام الآن وعيمق شفيه وبتسيلم ويوجد حكم والجمعية الفلسطينية للأبحاث التطبيقية "أريج")، جميعها توفر معلومات كثيرة عما سبق وتحذيرا في الوقت الصحيح وتحليلات معمقة بشكل دوري. مع ذلك، من لا يعيشون هذه العملية أو يرونها بأم أعينهم سيجدون صعوبة في استيعاب العنف والسحق الموجود في هذه الخطوات التخطيطية.
المحامون المستقلون والمخلصون، والمحامون في جمعية حقل وجمعية حقوق المواطن وموكيد للدفاع عن الفرد، ونشطاء إسرائيليون وفلسطينيون مختلفون يحاولون وقف هذا الاغتصاب المتسلسل، أو على الأقل التحذير منه. ولكن منظماتهم صغيرة وقليلة وتتم ملاحقتها اكثر وأكثر. وسائل الإعلام اليمينية في إسرائيل وقنوات المستوطنين تكثر من نشر تقارير انتصار عن إنجاز آخر عقاري – صهيوني – إلهي. من يستهلكون هذه الصحافة يعتبرون هذا السحق والتقسيم وحشر الفلسطينيين داخل حدود القرية إنقاذاً للبلاد وتطبيقا للوصايا وارتفاعا في مستوى المعيشة وفي مكاسبهم المادية.
عنف المستوطنين وسيطرتهم على المزيد من الأراضي الفلسطينية حتى من خلال تجاوز المخططات الهيكلية الرسمية العلنية، هي جزء لا يتجزأ من هذا النهج. العنف يتم الإبلاغ عنه اكثر لأنه توجد هناك "مؤامرة". مع ذلك، رغم الصدمة هنا وهناك فإن سلطات "القانون" والنظام سمحت وتواصل السماح بالعنف المنهجي هذا، وهكذا تشرعنه وتشجعه: الجنود، الذين يحدث كل شيء أمامهم، يقفون جانبا أو يطلقون النار على الفلسطينيين الذين هبوا لمساعدة إخوتهم. المهاجَمون يتم اعتقالهم، والمهاجِمون اليهود يقدمون شكاوى ضد من تمت مهاجمتهم. لا تعثر الشرطة على متهمين يهود ولا تحقق معهم. الملف تم إغلاقه بسبب قلة اهتمام الجمهور. النيابة العامة لا تقدم لوائح اتهام. هذا ما يحدث شهرا بعد شهر وسنة بعد سنة.
عنف اليهود، الذي يرافق كل بؤرة استيطانية جديدة، كان وما زال مثل البول الذي يحدد المنطقة الجغرافية: بعده يأتي الجيش، المخططون، المجلس الإقليمي، المحامون، ويكملون المهمة بكرفان وبعد ذلك بالكهرباء والمياه والسيطرة على النبع ومنع الوصول إلى حقل الزيتون. أصحاب الحقل مسموح لهم الوصول إليه مرتين في السنة، بتنسيق مسبق ومرافقة عسكرية، هذا إذا سمح المستوطنون بذلك. ولكن الحديث لا يدور في أي وقت عن حدود ثابتة ونهائية. المزيد من العنف يوسع اكثر حدود المنطقة ولو ببضعة دونمات في كل مرة، وفي داخلها يتم ابتلاع الجيوب المخصصة للفلسطينيين، وكلما كانت صغيرة ومكتظة ومنفصلة عن الجيوب الأخرى فهذا افضل.
سحق المنطقة هو اكثر بكثير من "إحباط إقامة دولة فلسطينية". هو تنكيل ممأسس وموجه لكل واحد من الملايين الخمسة من الفلسطينيين الموجودين في الضفة، بما في ذلك شرق القدس وقطاع غزة (فصل سكان القطاع هو جزء من تقسيم المنطقة). هذا تنكيل بالممتلكات ووسائل العيش والتراث وحياة العائلة وإمكانية الدراسة والعلاقات الاجتماعية وحرية الحركة والمستقبل. سرقة الفضاء المنهجية تهاجم حاضر وتاريخ المكان، المدينة، القرية والعائلة، وتمس بالصحة الجسدية والنفسية لكل إنسان. المشكلة في السحق ليست في إضعاف السلطة الفلسطينية، بل بالتخريب الذي لا يمكن منعه والموجه ضد الجمهور الذي يعيش في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، الذي وعده العالم في مرحلة معينة أن حقه في الاستقلال والحرية سيطبق. العالم وعد وغدر. فقط جذرية وقدرة الفلسطينيين على الصمود الرائع هي التي تشوش قليلا خطة إسرائيل الأساسية.
هناك من يهاجمون حكومة "فقط ليس بيبي" السابقة، التي هي أسوأ من سابقتها في كل ما يتعلق بالسياسة في الضفة الغربية: العدد المرتفع للفلسطينيين الذين قتلوا على يد الجنود، والمذابح التي نفذها مستوطنون بضوء اخضر من الشرطة والنيابة العامة والجيش، وخطط لشرعنة بؤر استيطانية وما شابه. هذه التهمة صحيحة وغير صحيحة. لأن تحطيم الفضاء الفلسطيني هو عملية محسوبة ومخططة وعابرة للحكومات، من الطبيعي أن كل مرحلة فيها هي اكثر دقة وتدميرا، تخترق حدود معينة كانت ما زالت محمية في المرحلة السابقة. هذا تصعيد مكتوب مسبقا يحدث أمام ناظرينا. وحكومة اليمين – الوسط لنفتالي بينيت ويائير لابيد وبني غانتس (بمساعدة ميراف ميخائيلي ونيتسان هوروفيتس) لم توقفه ولم تكن تنوي وقفه. فقط بالصدفة احتلت حكومة "فقط ليس بيبي" مربع العام 2022. في 2023 سيستمر التصعيد التخطيطي، لأنه لا توجد للأسف احتمالية لأن يستيقظ العالم قريبا ويستخدم ضغطا كبيرا على إسرائيل ومواطنيها من اجل صدهم.
التقسيم والطرد ليسا اختراعين جديدين. فإسرائيل صاحبة تجربة وخبرة في هذا المجال. هي تنفذ في الضفة الغربية ما نفذته وتنفذه منذ العام 1948 داخل حدود الخط الأخضر. في بداية التسعينيات، عندما تم إطلاق العملية السياسية بين إسرائيل و"م.ت.ف" فإن التوقعات المنطقية، للفلسطينيين ومعسكر السلام في إسرائيل الذي كان موجودا ولم يعد قائما، وللدول التي أعطت رعايتها لـ"أوسلو"، كانت أن إسرائيل ستوقف عملية السحق وسرقة الأراضي في 22% من أراضي فلسطين التاريخية. ولكن في ظل المفاوضات السلمية سرعت إسرائيل العملية وزادت شهوتها للعقارات. بهذا أثبتت فقط صدق ادعاءات وتحليلات الفلسطينيين منذ اكثر من مئة سنة: هدف الصهيونية وجوهرها هو طردهم من أراضيهم وتهجيرهم من وطنهم.

عن "هآرتس"