اللهب المتصاعد في الضفة: الواقع والتداعيات (1-2)

عاموس يادلين.jpg
حجم الخط

بقلم: عاموس يادلين وأودي أفنطال*


في أعقاب سلسلة العمليات في المدن الإسرائيلية خلال آذار المنصرم أعلن الجيش القيام حملة "كاسر الأمواج" التي تستمر حتى يومنا هذا. الهدف منها هو إحباط "الإرهاب" ضد المواطنين الإسرائيليين من طرف تنظيمات و"مخربين" أفراد من خلال جهود في اتجاهين: اعتقالات ليلية في عمق مناطق التنظيمات التي تخرج منها العمليات، وبصورة خاصة في شمال الضفة، وحماية مكثفة لخط التماس، تشمل إغلاق الفتحات في الجدار.
كثافة العمليات التي يقوم بها الجيش في الميدان أوقفت موجة العمليات داخل إسرائيل. وفي الوقت ذاته، عززت الاشتباك داخل المدن الفلسطينية، وأدت إلى ارتفاع وتيرة استعمال السلاح ضد قواتنا - على يد أعداد متزايدة من الشبان المسلحين - وبالتالي، إلى ارتفاع أعداد القتلى الفلسطينيين في إطار هذه المواجهات. وفي المقابل، تم تسجيل ارتفاع مستمر في عدد عمليات إطلاق النار على المحاور، وعلى المستوطنات في الضفة الغربية - هذا بالإضافة إلى استمرار المبادرات إلى تنفيذ عمليات فردية، كقتل العجوز في حولون، والشاب الذي خطط لتنفيذ عملية وتم إلقاء القبض عليه في يافا خلال هذا الشهر.
وجود السلاح بشكل واسع في الضفة الغربية؛ مجموعات مسلحة (وخصوصاً في جنين ونابلس) تقوم بما تريد؛ ارتفاع جاهزية الفلسطينيين للاشتباك مع قوات الأمن - كل هذه الأسباب تشكل معاً "دائرة إحباط" لا تنتهي، إذ تتحول الجهات التي أطلقت النار على القوات بالأمس إلى أهداف اعتقال الليلة، وهكذا دواليك.

الطريقة الأفضل لتهدئة الميدان
وصف رئيس "الشاباك"، رونين بار، الوضع في الخطاب الذي ألقاه مؤخراً في جامعة "رايخمن"، بأنه "دائرة مغلقة تزداد فيها محاور الإرهاب، وعدم وجود تعامُل كافٍ من أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بسبب السيادة المحدودة يستوجب عمليات إحباط إسرائيلية كل ليلة، بدورها تؤدي إلى المزيد من الإصابات في صفوف الفلسطينيين، وبالتالي، إلى تراجُع في مكانة أجهزة أمن السلطة".
يتفق مسؤولون في أجهزة الأمن الإسرائيلية على أن الطريقة الأمثل لتهدئة الأوضاع هي عبر عودة أجهزة أمن السلطة إلى العمل الأمني بطريقة ناجعة داخل المدن. هذه ليست مصلحة إسرائيلية - أمنية فقط، بل مصلحة السلطة نفسها أيضاً. فكما تبين في نابلس فان الظواهر "الفوضوية" هي تحدٍّ حقيقي لوجود السلطة برمتها كسلطة حكم.
وعلى الرغم من أن الحديث يدور عن مصلحة إسرائيلية - فلسطينية، فإن المهمة مركّبة أكثر مما يبدو، وبصورة خاصة في الوقت الحالي. فعشية الأعياد والانتخابات، تجد الحكومة الإسرائيلية نفسها في معضلة أمام التطورات في الضفة الغربية والقدس، على المستوى التكتيكي - العملياتي والاستراتيجي.
على الصعيد العملياتي، عندما تقوم قوات الجيش و"الشاباك" بملء الفراغ وتنشط بصورة مستمرة، ويومياً داخل الميدان، وخاصة عندما تنتهي هذه العمليات بـ"قتلى" فلسطينيين، يغدو من الصعب على أجهزة الأمن الفلسطينية العمل ضد بنى "الإرهاب".


حملة عسكرية واسعة ؟
كي تستطيع الأجهزة الأمنية العمل في جنين ونابلس، على إسرائيل خلق مساحة لها من خلال امتناعها موقتاً من العمل في منطقة محددة، وأن يتم الاتفاق بشكل صامت على عمليات فلسطينية بديلة من اعتقالات الجيش. فاعتقال نشطاء "حماس" و"فتح" في نابلس على يد أجهزة الأمن الفلسطينية الأسبوع الماضي شكّل، على ما يبدو، نجاحاً أولياً في دفع السلطة إلى العمل، لكنه أدى إلى مواجهات ضد أجهزة أمن السلطة من جانب الشبان والنشطاء المسلحين الذين تمت السيطرة عليهم حالياً من دون تدخُّل الجيش.
إلا إن هذه اللحظة الأولية لا تبشر بالربيع، ويجب فحص استمرار الاتجاهات.
بالتنسيق مع أجهزة أمن السلطة، أو من دونها إن استوجب الأمر، يجب فحص إمكانية وقف العمليات التي ستؤدي إلى قطع "دوامة الإرهاب" وتركيز الاعتقالات فيمن يخطط لعمليات داخل إسرائيل، أو في الضفة الغربية. وفي حال لم تدخل أجهزة أمن السلطة للعمل، ولم يتم تحسين الوضع القائم بهذه الطريقة، يبدو أنه سيتوجب القيام بحملة عسكرية واسعة في شمال الضفة، بهدف "تنظيف" الميدان من البنى "الإرهابية"، لكن هامش العمل لدى المستوى السياسي في فترة الأعياد والانتخابات يتقلص: من جهة، لا يستطيع السماح لنفسه بتخفيف عمليات الإحباط، لأن أي عملية تفلت من قوات الأمن سيكون لها تداعيات صعبة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية؛ ومن جهة أُخرى، فإن حملة عسكرية واسعة من الممكن أن يكون فيها مصابون كُثر من كلا الطرفين، وتتوسع إلى مناطق أُخرى، وتتأزم أكثر، عسكرياً وسياسياً.
منطقة أُخرى قابلة للاشتعال، وبصورة خاصة في فترة الأعياد، هي الحرم القدسي. خبرة الأعوام السابقة علمتنا أن ما يبدأ بمواجهات في الحرم، من الممكن أن ينتهي بتصعيد واسع أكثر في الضفة الغربية وغزة، بالإضافة إلى موجة إدانات في العالم العربي.
نقطة التوتر الأساسية اليوم هي توسيع وتيرة وعدد اقتحامات اليهود للحرم، التي يتم التعامل معها، فلسطينياً وأردنياً، على أنها خرق للـوضع القائم. هذه القضية تدفع بالقيادات الإسرائيلية إلى معضلة حقيقية، تزيد تعقيداً عشية الانتخابات - بين الحاجة إلى ضمان الاستقرار الأمني في المسجد وبين اعتبارات رمزية أُخرى لها علاقة بالسيطرة والسيادة على الأرض وإسقاطاتهما السياسية.

مصير السلطة الفلسطينية
على المستوى الاستراتيجي، فإن المعضلة في الضفة الغربية أوسع من هذا. إذ إن ضُعف الأجهزة الأمنية ومشكلة شرعيتها هي نتيجة تفكُّك السلطة الفلسطينية كمنظومة حكم. وتراجُع مكانة السلطة يرتبط بثلاثة اتجاهات:
- زعزعة أساس الفكرة: الفكرة التي تأسست السلطة استناداً إليها، ومن دونها لا تملك مبرر وجود، هي تحقيق الطموحات القومية الفلسطينية من خلال المفاوضات والترتيبات مع إسرائيل. هذه الفكرة تتزعزع وتضعف مقابل انغلاق الأفق السياسي من جهة، ومقابل طريق المقاومة المسلحة التي تطرحها "حماس" من جهة أُخرى. ثقة الجمهور الفلسطيني بالسلطة وطريقها السياسية وصلت إلى مراحل متدنية غير مسبوقة، تنعكس في استطلاعات الرأي، بالإضافة إلى الفساد المتجذّر وتفضيل المقربين.
- الأزمة الاقتصادية: تعيش السلطة تحت ضغوط اقتصادية متصاعدة، وتعاني جرّاء عدم وضوح اقتصادي جذري. وبسبب عدم وجود جدوى سياسية، أو تصعيد حرج، تقلص الاهتمام الدولي والإقليمي بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى تقليل المساعدات الاقتصادية للسلطة والأجهزة الأمنية.
- بوادر نهاية عهد أبو مازن: بالإضافة إلى الإحباط من إنجازات السلطة في نظر الجمهور الفلسطيني، فنحن نعيش في مرحلة نهاية عهد حُكم عباس، إذ بدأت تبرز بوادر الصراع على الخلافة.
هذه الاتجاهات تشكل خطورة حقيقية على وجود السلطة كنظام حكم ناجع لوقت طويل. تفكُّك السلطة يضع إسرائيل أمام خطر استراتيجي متعدد الأبعاد. فالظواهر الحالية، كانعدام السيادة في الميدان، ستتوسع ومعها الاشتباك ما بين الجيش و"جهات إرهابية". سيكون على الجيش تخصيص قوات كبيرة، بهدف القيام بعمليات ضبط وأمن يومي على حساب الإصغاء وتخصيص الموارد للتعامل مع تحديات أمنية أهم مقابل إيران و"حزب الله"، وهو أيضاً ما سيضر بمكانة إسرائيل السياسية والدولية والإقليمية.
وفي المقابل، على صعيد عملي، ستنتقل المسؤولية عن كافة جوانب الحياة اليومية لملايين الفلسطينيين إلى إسرائيل بالتدريج، من دون أن يكون لديها المنظومات والأدوات البيروقراطية اللازمة - أو مصادر التمويل الواسعة المطلوبة لملء الفراغ الحكومي في مجالات الصحة والتعليم والنظام العام وغيرها. تداعيات حرجة بدرجة متساوية متوقعة على المستويات الفكرية ومن حيث الرؤية. تفكُّك السلطة وتوسيع السيطرة الإسرائيلية إلى حد الضم الفعلي، من الممكن أن يؤديا إلى اختفاء فكرة الدولتين وتقوية فكرة الدولة الواحدة التي يزداد تأييدها منذ اليوم في الساحة الفلسطينية، وتؤثر في العلاقات الخارجية لإسرائيل، ومن ضمنها العلاقات مع أفضل الأصدقاء.

عن موقع "N12"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عاموس يادلين رئيس شعبة الاستخبارات سابقاً وباحث، وأودي أفنطال باحث وعسكري.