على غير ما توقع قادة الاحتلال الإسرائيلي، بل وعلى غير ما توقع معظم المتابعين للشأن الميداني، لم ينجح الجيش الإسرائيلي وشرطته ومستعربوه، مع مستوطنيه، رغم تعزيز ما هو منتشر منها في كل أنحاء الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، بنحو عشرة كتائب عسكرية، في كسر شوكة الشباب الفلسطيني المقاوم، وذلك على مدى ستة أشهر كاملة، بدأتها إسرائيل بالعملية العسكرية، التي محورها الرئيسي هو اقتحام المدن المصنفة مناطق أ التابعة أمنياً وسياسياً وبالكامل للسلطة الفلسطينية، والتي أسمتها «كاسر الأمواج»، وذلك لتهيئة الأجواء لعربدة المتطرفين من المتدينين والمستوطنين اليهود، خلال فترة الأعياد اليهودية التي بدأت في السادس والعشرين من أيلول الماضي بعيد السنة اليهودية، ومرت أمس بعيد الغفران، أو يوم كيبور، وهو اليوم الذي فاجأتها فيه قبل 49 سنة مصر وسورية بشن حرب أكتوبر، حيث ألحقت بها هزيمة نكراء، وتتواصل حتى ما بعد يوم الانتخابات في مطلع تشرين الثاني القادم، بعد مرورها بعيد العرش.
وإذا كان قادة الأمن الإسرائيلي قد تفاجؤوا من تمنع موج المقاومة على الكسر، لدرجة أن الإحباط بدأ يتسلل الى صدورهم، فإن المتابعين قد تفاجؤوا من دخول فترة الأعياد، والجبهة الفلسطينية/الإسرائيلية قد انشغلت بشيء آخر، غير الذي كان متوقعاً، وهو أن تندلع المواجهة في باحات المسجد الأقصى، وحتى الحرم الإبراهيمي، بما يعيد للأذهان ما يحدث عادة في شهر رمضان، حين تتخلله أعياد يهودية، تكون مناسبة لاقتحامات المتطرفين من المتدينين اليهود لأولى قبلتي المسلمين وثالث حرميهم.
من الواضح بأن عدم نجاح الجيش الإسرائيلي وكل منظومته الأمنية في «سحق» المقاومين خاصة في مدن شمال الضفة الغربية، في وقت مبكر، قد أربك حسابات إسرائيل، التي كانت تعد العدة لإطلاق حملة تهويد نهائي للحرم، بتمرير طقوس غير مسبوقة، بحيث بدأت فترة الأعياد، وما زالت الضفة الغربية تقارع بأمواجها العاتية جنود الاحتلال، بل وتتصدى لاقتحاماتهم بما لم يعتادوا عليه من قبل، نقصد اطلاق الرصاص، وكأن الضفة قد تحولت الى ساحة حرب تحرير شعبية، هي الفصل الأخير الذي يسبق كنس الاحتلال من على أرضها، وعلى ذلك فإنه رغم أن العالم مشغول بالعملية الروسية في أوكرانيا، كذلك العالم العربي ما زال يغفو في سبات عميق، إلا أن شباب الضفة المقاوم، قد جعل من فلسطين مرادفاً اقليمياً، أو على الأقل ضمن الاهتمام الإسرائيلي نفسه، للحدث الأوكراني، ومن يتابع أهم محطات الأخبار في الإقليم يدرك هذه الحقيقة.
لا شك بأن الحكومة الإسرائيلية في حالة تنافس انتخابي شديد مع المعارضة، بل في حالة تنافس داخلي، ولكنه أكثر هدوءاً، بين رئيسها يائير لابيد ووزير الجيش بيني غانتس الطامحين كلاهما لمنصب رئيس الحكومة، ما بعد انتخابات الأول من تشرين ثاني القادم، ولا شك بأنها تسعى لتحقيق الهدف الأمني بفرض الهدوء على الضفة الغربية، بكل مدنها وليس على القدس وحسب، وهي تظن واهمة بالطبع بأنه يمكن تحقيق ذلك عبر عمليات الاعتقال والقتل الميداني، واستخدام سياسة العصا الغليظة، وبمعزل عن الأسباب الحقيقية للمقاومة، وهي الاحتلال نفسه، بل وحتى عن السبب المباشر وراء تأجهها في هذه اللحظة بالذات، نقصد انسداد الأفق السياسي، لكن مع ذلك يمكن القول بأن تحقيق المكسب الانتخابي حاضر، وهو هنا أن يظل الجمهور الإسرائيلي منشغلاً بما يقوم به الجيش باقتحام المدن الفلسطينية، لتجنيب المدن الإسرائيلية وقوع عمليات فيها، أي بهدف احباط عشرات التحذيرات اليومية، كما يقول ويدعي قادة الأمن الإسرائيلي، التي ترد اليهم وتحذرهم من وقوع تلك العمليات انطلاقاً من المدن الفلسطينية، خاصة جنين ونابلس. أي أن مصلحة لابيد وغانتس، تكمن في تحويل تعلق الجمهور الإسرائيلي بأغلبيته اليمينية، من نواة اليمين الصلبة، أي المتطرفين من المستوطنين والمتدينين، والتي تتضح تماما في تعاظم قوة حزب ايتمار بن غفير، الى الجيش وقوات الأمن، وهي أداة الحكومة، وبالتحديد وزير الجيش أولا، ورئيس الحكومة ثانياً.
ويبدو بأن استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، كان أحد عوامل الحفاظ على قوة حزب يائير لابيد، الذي أوقف قدرة منافسه على تشكيل حكومة أغلبية ضيقة بأحزاب الليكود وشاس ويهوديت هتوارة والصهيونية الدينية، حسب تقديرات استطلاعات الرأي الأخيرة، رغم أن التقديرات كانت قبل أسابيع، اظهرت قدرة نتنياهو على تشكيل تلك الحكومة، أي أن فرصة لابيد وغانتس للبقاء في الحكم، باتت معلقة في عقب عمليتهما العسكرية في الضفة الغربية، وعلينا هنا أن نتخيل سيناريو وقوع عملية في احدى المدن الإسرائيلية وراء الخط الأخضر قبل يوم الانتخابات، حينها سترجح كفة معسكر المعارضة للفوز بالانتخابات.
بالمقابل فإن انتفاضة كسر الاحتلال الحالية في الضفة الغربية، قد فرضت مستوى من التوازن، بحيث اخرجت المستوطنين الى حد ما من دائرة المواجهة، كما دفعت بالمتطرفين الى الوراء، حيث بات أبطال المشهد، هم المقاتلون الفلسطينيون وجنود الاحتلال، كذلك هي قد أظهرت مستوى ضعف جيش الاحتلال على المواجهة، بعد أن تلاشى التنسيق الأمني ميدانيا، وباتت مدن الضفة كما كان حالها قبل ثلاثين سنة، أي في سنوات الانتفاضة الأولى الأخيرة، والتي توقفت بعد أن حققت الإنجاز السياسي، وما على الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن يعيد المشهد مجددا، وأن يستذكر ما كان عليه الحال قبل ثلاثين سنة، فالمقاومون لا يسقطون من السماء، ولا هم مستوردون من الخارج، بل حتى انهم ولدوا بعد أوسلو، أي في ظل الرغبة والإرادة الفلسطينية التي ما زالت قائمة حتى الآن، في تحقيق السلام مع الجيران. ولقد وصل الأمر بإسرائيل لدرجة انها باتت تعد مدن جنين ونابلس بمثابة الجبهة الخامسة التي تثقل كاهل الأمن الإسرائيلي، بعد جبهات كل من: ايران، سورية، حزب الله، وحماس.
ورغم ان الحسم ما بين الاحتلال وكنسه ما زال بعيداً، إلا انه بتقديرنا، هناك عوامل عديدة تحول دون ان تتمكن ثورة انهاء الاحتلال، في هذه اللحظة، من جر اسرائيل لطاولة التفاوض، كما فعلت انتفاضة 87، هذا رغم أن إسرائيل سعت أولا عبر قطر ومصر، وحاليا عبر أميركا، لإقناع السلطة بالعودة للتنسيق الأمني، حتى تخرج من ورطتها، وتتجاوز عجزها عن كسر أمواج الضفة الثائرة، منها ما له علاقة بانعدام الراعي الأميركي والرباعي، لكن حين يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون كما حدث في أوسلو، ستسارع أميركا، وسينسى بايدن بأن الحل بحاجة الى معجزة المسيح، لرعاية طاولة التفاوض، ونحن نعتقد بأن أهم ما يمنع إسرائيل من الرضوخ للمطلب الفلسطيني السياسي، بفتح الأفق السياسي، هو محطة الانتخابات، بحيث أنه يمكنها أن تقدم على ذلك في اليوم الذي يلي يوم الانتخابات، خاصة اذا ما نجح معسكر لابيد_غانتس في البقاء بمقعد الحكومة، حيث أن غانتس يتسلح بكونه الأكثر جرأة حين التقى الرئيس عباس من قبل، وبذلك ربما يكون أكثر حظاً وملائمة للمرحة القادمة من لابيد نفسه.