هذا المقال ليس للانتصار لأي من الدين أو العلمانية ولا للمفاضلة بينهما، كذلك هو ليس للبحث في السياق الذي ظهرت فيه العلمانية بأشكالها المتعددة، ولا في الارتدادات التي تحدث في كثير من الأحيان من أشكال معينة من الإيمان- أو اللا ايمان- بحيث تنعكس سلبا على العلاقات الاجتماعية بين الناس.
انه مقال يحاول تشخيص حالة يذهب فيها المثقف "العلماني" (هذه المرة) بعيدا عن جوهر مهمته في الدفاع عن حرية الاختيار الى نوع من الادلجة تحمل ضررا فادحا على الشعب والأمة، حالة يبدو فيها المثقف الذي يفترض فيه الحرص على قضايا شعبه الكبرى رأس حربة في تمييع، وربما ضياع تلك القضايا.
تجلت العلمانية لدى روادها في المنطقة العربية تاريخيا بمواقف تجاه قضايا ربما كان التدين، والموقف من الدين اجمالا أقلها حضورا. فالعلمانية أساسا هي موقف من الدولة، او حالة للدولة يصفها كثيرون بالمدنية، بحيث تساوي بين مواطنيها ولا تفرق بينهم خاصة لإعتبارات تتعلق بايمانهم الديني. وهي في هذا المجال موقف مضاد للنظام الذي يلجأ احيانا لاستخدام الدين في تثبيت شرعيته وفرض هيمنته وممارسة استبداده.
وهي، أي العلمانية، موقف من الحرية، أو حالة ارتبطت بالحرية خاصة الحرية الدينية وحرية المعتقد.
وهي حالة ارتبطت بحركة التنوير، والموقف المنحاز للعقل والعقلانية والتحرر من الأوهام في العلوم والمواضيع التي تتطلب ذلك. كما ارتبطت بالانفتاح على الثقافات الأخرى.
هي ليست ايديولوجيا ولا ينبغي لها أن تكون، تماما كما هو الدين. وبالتالي فهي تجارب وثقافات مختلفة من دولة لأخرى في تلك الدول التي تعتبر علمانية.... خاصة في علاقتها مع ظاهرة التدين.... فعلمانية فرنسا التي تعاملت مع مظاهر التدين بشكل حاد، اختلفت عن التجربة الانجليزية التي يعتبر الملك فيها رأسا للكنيسة الانجليكانية، كما اختلفت عن التجربة اليابانية التي يعتبر فيها الامبراطور الها بشكل او بآخر.
العلمانيون الأوائل
منذ نشأة الحركة العلمانية في المنطقة العربية في أواخر القرن التاسع عشر لم تأخذ موقفا محددا من الإيمان الديني، بل كان الموقف الأبرز هو رفض نظام الحكم المتمثل بالاستبداد السياسي، وأدى الى صدام مع حكومات ومؤسسات (بما فيها مؤسسات دينية) ليس على قاعدة قبول الدين أو رفضه إنما على قاعدة سياسية بالأساس.
عند النظر الى أهم العلمانيين الأوائل أو حتى من اولئك الذين شكلوا جيلا ثانيا وثالثا من العلمانيين العرب من أمثال علي عبد الرازق، فرح انطون، سلامة موسى، طه حسين، احمد لطفي السيد، قاسم امين، انطون سعادة، محمود امين العالم، والجابري وعبدالله العروي وكثيرين غيرهم نجد اختلافا كبيرا في مواقعهم من الدين، منهم رجل الدين ومنهم غير المتدين، منهم المسلم ومنهم المسيحي، إلا أن ما جمعهم أنهم كانوا اساسا دعاة لنهضة الأمة، وآمنوا بوحدة الأمة وقضاياها، وتبنوا حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة وحرية الفكر وتبني العقلانية، وشكلوا كل بطريقته حركة تنويرية ترفض الدولة المغلقة، وتدعو للدولة المدنية ولعلاقة " سليمة " بين الدين والسياسة.
رواد من أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وفي مرحلة لاحقة مفكرون من أمثال الدكتور حسن حنفي، استندوا الى خلفيتهم الدينية في محاولة لإيجاد حركة إصلاح ديني تنحاز للإنسان وترتقي به. وحتى مفكرون وناشطون من أمثال رفعت السعيد وفرج فودة الذين اشتهروا بنقدهم للمؤسسة الدينية وسلوكها السياسي والاجتماعي، وكذلك لبعض حركات الاسلام السياسي ولم يذهبوا للحديث عن إيمان الناس وتدينهم ومقدساتهم ورموزهم الدينية. هؤلاء جميعا تعاملوا مع مواضيع الانسان والنهضة والتقدم والحداثة.
ومع الدولة والحرية والعلم وحتى الدين بأخلاق وباحترام للتعددية وتفهم للتجارب المختلفة للبشر. كما أن مواقف اولئك الذين عاصروا القضية الفلسطينية منهم كانت مع الحق الفلسطيني، وكانوا ضد اسرائيل كدولة صهيونية تشكل رأس حربة للإمبريالية في المنطقة.
العلمانيون الجدد
تسمية العلمانيون "الجدد" ليس لها علاقة بجيل معين من العلمانيين في الفضاء العربي، بقدر ما هي محاكاة لتسمية "المحافظين الجدد" في الولايات المتحدة الأمريكية اساسا، لها مدلول فكري ايديولوجي اكثر من علاقة بزمن معين، وهي تتحدث عن فئة من العلمانيين انفصلت عن النهج التقليدي لرواد العلمانية في المنطقة، ومثلت "اصولية" علمانية في مقابل اصولية دينية، حيث ساهم الطرفان معا في ضرب العقلانية والوطنية بشكل او بآخر.
من المهم التوضيح أن كثيرا من العلمانيين الآن ما زالوا على نهج اسلافهم الأوائل ديمقراطيون وطنيون "مسؤولون". قلة من العلمانيين الآن هي من ذهبت باتجاه العلمانية "الجديدة " التي تخلت عن الصفات السابقة للعلمانيين الأوائل وذهبت نحو "ليبرالية" وضعتها في مكان آخر مختلف.
قبل الحديث عن مآخذنا على بعض افكار هؤلاء العلمانيين الجدد لا بد من الاقرار أن لدى الكثيرين منهم انتاج فكري يستحق الاهتمام واحيانا التقدير، الا أن بعض الطروحات والأفكار والمواقف اللافتة، جعلتهم يختلفون عن العلمانيين التقليديين الذين حملوا مشروع نهضة الأمة، ليكونوا "ادوات" في مشاريع مضادة، ارادوا ذلك ام لم يريدوا.
على عكس العلمانيين "التقليديين" الأوائل الذين لم يتطرقوا الى الدين في ذاته، ولم يعتبروا العلمانية ايديولوجيا مطلوب من المجتمع أن يتبناها ويؤمن بها، ذهب العلمانيون الجدد الى أدلجة العلمانية، وإلى دعوة الأفراد لتبنيها بدل أن تكون دعوة لعلمنة الدولة. هذا قسم العالم من وجهة نظرهم الى مؤمنين وغير مؤمنين، متدينين وغير متدينين، وبذلك أسست لصراع أبدي بين البشر، تماما كما فعلت التطبيقات الاصولية للأديان، بدل أن يكون التقسيم الطبيعي للبشر هو ظالمين ومظلومين، مضطهدين ومضطهدين، مستغلين ومستغلين.
كما فعلت بعض المؤسسات الدينية أو اتباعها التي "احتفلت" كلما اشهرت اسلامها "شغالة" في السعودية، يبتهج العلمانيون "الجدد" إذا تخلى متدين عن دينه. هم يتابعون بشغف ازدياد نسبة الملحدين في البلاد العربية، ويقلقون إذا ما تناقصت هذه النسبة، تماما كما يفعل الجانب المقابل عندما يزداد المتدينون أو ينقصون ... هما وجهان لعملة واحدة. هذه المسألة، ازدياد أو نقصان المؤمنين أو غير المؤمنين، ليست هي ما يشغل بال العلماني الحقيقي الذي هاجسه منسوب الحرية أكثر من منسوب التدين أو عدمه.
من أبرز مظاهر الذهاب بالأصولية الدينية الى مداها الأقصى في الحالة الاسلامية هو ما ذهبت اليه بعض الانتلجنسيا الدينية في ما يتعلق بما سمي "اسلمة العلوم"، وهو محاولة تطبيق قواعد الفكر الديني ومعطياته على مناهج البحث العلمي، وهذا يصل بصاحبه الى الاستنتاج أن كل ما هو مكتشف أو سوف يكتشف علميا موجود في الدين سلفا. في مقابل ذلك، أي في مقابل ذهاب تلك الانتلجنسيا الدينية الى أن قوانين العلم يجب أن تكون خاضعة للدين، انشغل العلمانيون الجدد بمحاولة البرهان العقلي على "لا عقلانية" الايمان. لقد حاول الاصوليون العلمانيون، تماما كما حاول الاصوليون المتدينون تجيير كل مساحة حياة الانسان المادية والروحية لاعتباراته دون أن يحاول أن يفصل بين آليات عمل العقل والعلم والجانب الروحي من الانسان.
حاول العلمانيون الجدد، بل وضعوا معظم جهدهم لأثبات "لا عقلانية" الإيمان واعتبروا ذلك انجازا عظيما، فذهبوا الى تفاصيل التفاصيل في مسائل الاسطورة والمعجزات وناقشوا عدم معقوليتها في ضوء "المنطق" العلمي... ناقشوا الإسراء والمعراج في ضوء قوانين الجاذبية وسرعة الضوء، وناقشوا عذرية السيدة مريم بقوانين طب النساء. ربما من الضرورة بمكان أن نعود لابن رشد لمعرفة مدى ضرورة وضع العلم والإيمان كل في سياقه.
إن الدراسات التي تتعلق بالظاهرة الدينية وبالفكر الديني وفلسفة الدين وسوسيولوجيا الدين التي يقوم بها مختصون متدينون أو غير متدينين هي دراسات في غاية الأهمية نظرا لما للدين من تأثير هائل على اعداد واسعة من الجماهير.
لكن بعض العلمانيين "الجدد" يذهبون لدراسة بعض الأمور التي من الصعب فهم جدواها الا من باب "المماحكات" الفكرية... فماذا يعني ان تدرس إن كان الخمر قد حرم في الإسلام أم لم يحرم؟، وماذا تفيد دراسة علاقة النبي بزوجاته على سبيل المثال.
لكن مثل هذه الاهتمامات التي يغلب عليها الطابع الطفولي في الكثير من الأحيان، ليست هي الأخطر في الفكر والممارسة لدى العلمانيين الجدد. بل بالإمكان ملاحظة بعض "الخطايا" التي يتبناها وينظر لها بعض رموز العلمانية الجديدة ومنها
- غياب المسؤولية الثقافية لدى كثير من هؤلاء... فعلى المثقف الاهتمام ليس فقط بصدق أو حقيقة ما يقول، بل ايضا بما يترتب على ما يقول وتأثير ذلك القول. ضمن ذلك يتناول العلمانيون الجدد -يوسف زيدان مثلا- مواضيع تشكل رموزا للأمة وينفي صحتها أو يعمل على الإساءة لها والتقليل من هيبتها مثل قوله ان مدينة القدس ليست مقدسة، أو أن المسجد الأقصى ليس هو الذي في القدس، أو أن صلاح الدين الأيوبي وأحمد عرابي شخصان سيئان. ان التشكيك بهذه الرموز والعبث بها في العقل والوجدان الشعبي سوف يزعزع عوامل تماسك الأمة ويخدم اعداءها.
من حق كل شخص أن يعتقد ما يريد، لكن من واجب ذلك الشخص إدراك اهمية وربما مخاطر قد تترتب على الترويج لذلك الإعتقاد، لذلك وجب الاهتمام ليس فقط بما يقال، بل كيف يقال ومتى يقال ولمن يقال...
إن العلماني الجديد عندما يشكك برموز وحدة الامة، سواء كانت هذه الرموز واقعية أم أسطورية، حقيقية أم متصورة (كثير من عوامل وحدة الأمم حتى المتقدمة منها هي ليست اكثر من اساطير)، فهو يقوم بدور الكومبرادور الثقافي الذي يعبث بوحدة أمته ويخدم اعداءها سواء ادرك ذلك أو لم يدرك.
كما يعادي العلماني الجديد الاسلام السياسي (و غير السياسي )من حيث المبدأ، وهذا قد يكون متفهما، لكن من غير المتفهم هو وضع كل حركات الاسلام السياسي في سلة واحدة فتصبح داعش والنصرة وحماس وحزب الله وحركة النهضة وغيرها على نفس الدرجة من "السوء"، كذلك فإن هذا الموقف الرافض لكل مبادئ وسلوك ورواية كافة حركات الاسلام السياسي يذهب بهذا العلماني الى الترويج للرواية الصهيونية. لقد ذهب أحدهم لحد المطالبة بتقسيم الأقصى بين المسلمين واليهود والملحدين على اعتبار أن الرواية الاسلامية ليست "علمية".
ليس غريبا أن بعض رموز التطبيع مع إسرائيل من المثقفين هم من العلمانيين الجدد. لقد نقل هؤلاء تطبيع "الضرورة" الذي نظر له مثقفو السلطة أيام كامب ديفيد واوسلو الى تطبيع الإعجاب.. تطبيع الإمارات والبحرين.. على اعتبار أن الصهيونية هي الحداثة وهي الغرب الذي يريدون أن يكونوه. لقد طالب أحد رموز هؤلاء (سيد قمني) بعودة الاستعمار "ليرحمنا من الاسلاميين" كما قال، ولم يأخذ بعين الاعتبار أن الاستعمار الذي يدعو للعودة اليه هو الذي صنع داعش والوهابية وكثير من الاستبداد الديني وغير الديني في المنطقة.
في أمور التطبيع، المثقفون العلمانيون الجدد أكثر "جرأة" و "وقاحة" من السياسيين المطبعين... ففي حين يحاول السياسي الاختباء وراء بعض المصالح والظروف نجد مثقفا كيوسف زيدان يقول، ومنذ فترة، من "لا يؤيد التطبيع فهو جاهل".
يختلف موقف العلمانيين الجدد عن العلمانيين التقليديين في الموقف من السلطة.
ففي حين يعتبر العلمانيون التقليديون معارضون لنظام الحكم بشكل او بآخر بسبب الاستبداد والتخلي عن القضايا الوطنية واستخدام الدين ضد المعارضة والتمييز بين المواطنين على أسس عقائدية، نجد أن العلمانيين الجدد يتحالفون مع السلطة و مع "الاستبداد" على اعتبار أن المعارضة من الاسلاميين. أكثر شيء لفت انتباه سيد قمني في السياسات التي انتهجها الرئيس السيسي هو دعوته لإصلاح الخطاب الديني ولم يهتم بكافة السياسات الأخرى للرئيس.
وبخلاف العلمانيين التقليديين الذين يحرصون على البحث عن طرق لإنقاذ امتهم وشعوبهم من التبعية والاستبداد والتخلف، يعتبر العلمانيون الجدد أن التخلف شيء مرتبط بالأمة لا يمكن التخلص منه. احمد عصيد مثلا يعتبر أن طريق تقدم المغرب هو خلاصه من كل ارتباطات شرقية وتوجهه نحو الغرب حيث قال "على المغرب أن ينفصل عن الشرق إذا أراد أن يخرج من التخلف". كما دافع عصيد عن التطبيع مع إسرائيل بذريعة العلاقة مع اليهود المغاربة الذين "أخرجوا من ارضهم بتحريض كبير من حزب سياسي".
لقد تأثر العلمانيون التقليديون بالغرب، بالحرية والعدالة والمساواة التي تحدثت عنها الثورة الفرنسية، وبالتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي الذي نتج عن الثورة الصناعية، لكنهم لم يتغاضوا عن الوجه الآخر الاستعماري للغرب، وسعيه الدائم للسيطرة على المنطقة العربية وبقية العالم النامي. أما العلمانيون الجدد فهم مغرمون بالغرب بكل تفاصيله وبدون تحفظ. الاستعمار من وجهة نظرهم هو شيء إيجابي ولولاه لما تقدمت الشعوب التي استعمرت. قال سيد قمني في إحدى مقابلاته "لو ان الاوروبيين ما راحوش امريكا كان الهنود الحمر بولعوا بالنار".
هذا الإعجاب الشديد بالغرب تزامن مع احتقار شديد للشرق (للذات) يذكر برد فعل بن غوريون عندما نزل من الباخرة التي اقلته الى ميناء يافا حيث أعرب عن اشمئزازه من الوضع هناك. يبدو أن العلمانيين الجدد اتخذوا الموقف السلبي من الاسلام ليس بصفته دينا (فهم لم يتخذوا مثل هذا الموقف تجاه اليهودية والمسيحية) بل لارتباطه بالشرق كدين وكثقافة وقيم.
وفي نفس السياق، سخف بعض العلمانيين الجدد النضال الفلسطيني، فالفلسطينيون "باعوا اراضيهم والجماعة اشتروا" كما قال سيد قمني. وقال أيضا ان الفلسطينيين ما تصارعوا من أجل أرض وإنما من أجل جامع. كما وصف سيد قمني "الربيع العربي" بنفس الطريقة عندما قال "كل يدافع عن جامعه".
العلمانيون الجدد هم الصورة المقابلة للأصولية الدينية... هم شموليون مستبدون بحجة رفض التخلف، وهم غير وطنيين بذريعة "تخلف" الوطنيين. قدموا بعلم أو بغير علم خدمات مجانية للرواية الصهيونية ووقفوا بكل "فخر" الى جانب التطبيع مع إسرائيل.
*أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله