بوتين وشروط «الحمقى»!

حجم الخط

ممدوح المهيني المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»


    
من البداية لم يجعل بوتين حربه ضد أوكرانيا حرباً عادية... حرباً ليست فقط للسيطرة على أراضٍ أو ثروات، بل جعل منها حرب مواجهة للغرب وتغيير النظام الدولي الظالم بحق روسيا ودول أخرى حول العالم تعاني من الإجحاف، كما يقول.
في خطابه الأخير، مثل تقريباً كل الخطابات السابقة، يُوجّه سيلاً من الانتقادات للغرب ككتلة سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية وثقافية. هاجمه بشراسة وحمّله شرور العالم الذي نعيش فيه ونزعاته الشيطانية. «الاستعمار» و«دفع الجزية» و«نهب الثروات»، و«حشد من العبيد بلا روح» و«مآس» و«أنقاض»، تعابير وردت في خطاب الضم الأخير، وهي تعبر عن خزان الغضب داخل الرئيس الروسي.
من الواضح أن بوتين يرى أن التاريخ يصطفيه ووضع على عاتقه مهمة كبرى. لم يكتفِ بجعل روسيا قوية ومؤثرة على الساحة الدولية، ولكن يريد أن تتذكره الكتب بالرجل الذي غيّر مسار العالم وأخرجه من «الوصاية» الغربية.
إذن، فكل ما يفعله بوتين هو نزع المشروعية عن هذا النظام القديم وإسباغها على النظام الجديد الذي يعلن عن ولادته. فقد أعلن أن الشروط التي يضعها الغرب هي فقط للحمقى. ومن المؤكد أن خطابه يجتذب مناصرين ومتعاطفين من المعادين للغرب لأسبابهم المختلفة. ولكن السؤال هل يفعلها؟ في تقديري، يواجه الرئيس الروسي ثلاثة تحديات كبيرة.
أولاً، القوة العسكرية. تغيير النظام الدولي يتطلب قوة عسكرية كاسحة تفرض هيمنتها وشروطها على العالم. الإمبراطورية البريطانية فرضت نظامها على العالم ولم تضعف إلا بعد تراجع قوتها العسكرية، وتحديداً البحرية، أمام صعود الولايات المتحدة، حينها فقط خسرت نفوذها. انهيار الإمبراطورية البريطانية كان على عقود طويلة ولأسباب جذرية. حصتها في التصنيع العالمي كانت في أعلى مراحلها عام 1870 عندما كانت 30 في المائة، ولكنها هبطت في عام 1910 لتصل إلى 15 في المائة في الوقت ذاته الذي زاد تصنيع الولايات المتحدة ليصل إلى 25 في المائة. قوتها البحرية الضاربة التي كانت سيدة المحيطات والبحار بسفنها الحربية التي تدمر كل ما يقف أمامها، بلغت ذروة مجدها عام 1883، ولكنها خرجت من المنافسة عام 1897 أمام الأسطولين الأميركي في الغرب والياباني في الشرق. لكن هذا بالتأكيد لا ينطبق على الولايات المتحدة التي ما زال إنتاج اقتصادها العالمي الذي يصل إلى الربع لم يتغير منذ 1969 وحتى اليوم. قوتها العسكرية التي تنفق عليها أكثر من 740 مليار دولار هي الأعلى عالمياً (مقابل 42 مليار دولار ميزانية الدفاع والإنفاق على الجيش الروسي).
تصارعت القوى الأوروبية ولم يستطع أحد فيها أن يتفوق عسكرياً ويجعل الآخرين منصاعين له. هتلر امتلك قوة عسكرية هائلة وغزا أوروبا وكان قريباً من فرض رؤيته السياسية على العالم. الزعيم النازي أدرك منذ صعوده أن نجاح أحلامه السياسية في بسط القوة الألمانية حول العالم لا يأتي إلا بقوة عسكرية كبيرة وكانت أولى خطواته بتعزيز قوته العسكرية. الولايات المتحدة شكّلت العالم الذي نعيش فيه بقوتها العسكرية قبل قوتها الناعمة. قواعدها العسكرية حول العالم وتفوقها العسكري هو الذي تحافظ به على مكانتها من التراجع أمام خصومها. من جهة أخرى، لم يتمكن الجيش الروسي من دخول كييف، وتتراجع قواته المنهكة في المناطق التي أعلن مؤخراً ضمها للتراب الروسي. القوة العسكرية الروسية غير قادرة على تغيير شروط «الحمقى» التي فرضها الغرب على العالم، كما قال بوتين، ومن الصعب تخيل أن يفعل ذلك مستقبلاً.
السبب الثاني، الدعم الغربي المستمر لأوكرانيا سيقف حجر عثرة في وجه طموح الرئيس الروسي في خلق عالم بديل بعد أن ينتزع منه نوازع الشر. أدركت الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيون بأن نوايا بوتين لا تقتصر على هزيمة الأوكرانيين، بل تغيير موازين القوى. وفهموا جيداً أن التفاوض معه هو «رشفة أولى من فنجان مرير» ستعقبه تنازلات أخرى. 65 مليار دولار قيمة المساعدات الأميركية وحدها لكييف حتى هزيمة الروس الذين اضطروا إلى التلويح باستخدام الأسلحة النووية كأداة للتهديد. نرى الآن مشهداً مختلفاً مع صور الشبّان الروس الذين اضطروا إلى كسر أذرعتهم حتى يُعفوا من التجنيد الإجباري عن مشهد الأسابيع الأولى المفعمة بروح الانتصار على الأعداء «النازيين».
السبب الثالث، الذي يحد من طموحات بوتين هو تجاهل الأصدقاء والحلفاء المقربين. كوريا الشمالية وحدها فقط أيّدت إعلان ضم الأقاليم الأربعة، وفي قمة شنغهاي لم يخرج بوتين بدعم كبير من الحلفاء، بل العكس؛ فقد حدثت انشقاقات عبّر عنها رئيس الوزراء الهندي الذي قال لبوتين بصراحة، إن «هذا ليس وقت الحرب». وتحدث الرئيس الصيني عن نظام عالمي جديد، ولكن المطالبات الصينية بالدعوة لإيقاف الحرب لم تتوقف ولم تفلح زيارات وزير الخارجية الروسي في إقناع بكين بجدوى التحالف الوثيق حتى في احتلال الأراضي لتشكيل صورة جديدة للعالم الجديد. دول عديدة التزمت الحياد وابتعدت عن فوضى التطاحن ودعت لإيقاف الحرب. من الصعب على بوتين أن يغيّر صورة العالم من دون حلفاء يدعمونه عسكرياً ويتشاركون معه الأفكار والطموحات. قد يرى بوتين في أن الغرب حوّل العالم إلى «حشد من العبيد»، ولكن تغيير هذا الواقع ليس بالأمر اليسير.