حوارات الجزائر: أين تكمن العقدة؟

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

يسأل الفلسطيني نفسه ونحن اليوم على موعدٍ مع بدء حوارات الجزائر: أيُعقل أن نفشل من جديد بالرغم من كل ما يحيط الشعب الفلسطيني من أهوال وأخطار وتحديات؟ وأين تكمن «عقدة» الوصول إلى إنهاء الانقسام والدخول في مصالحة؟
هل تكمن عقدة هذا الانقسام في الخلافات السياسية؟
أم يا تُرى هي الحصص، في إطار السلطة والمنظمة؟
أم في المنافسة على التمثيل السياسي، أي بما هو أكبر من مجرّد الاقتسام والمحاصصة؟
أم أن «العقدة» تكمن في ذلك كلّه؟
هناك اعتقاد يكاد يكون سائداً أن الاستنتاج الصحيح في أن «عقدة» الانقسام تكمن في ذلك كلّه، وأن التوجه إلى إنهاء الانقسام قد فشل حتى الآن، وسيفشل لاحقاً ما لم تؤخذ وتراعَ كل هذه العناصر بعين الاعتبار، وما لم توضع أسس وقواعد ملزمة بعد الاتفاق على تلبية مضامينها في هيئة «مصالح» لمختلف أطراف الانقسام.
ويسود اعتقاد في ضوء ذلك أن الأرضية الصلبة القائمة على هذه «التلبية» من شأنها الإيذان ببدء مرحلةٍ جديدة من العلاقات الوطنية.
بالعودة إلى كل الحوارات، وكل اللقاءات، وكل الاتفاقات، وكل الإعلانات والبيانات نجد أن كل هذه البنود قد تمت مناقشتها بأدق التفاصيل في مختلف المناسبات والمراحل، وفي كل محطات محاولة إنهاء الانقسام. ونجد، أيضاً، أن العواصم العربية والإقليمية والدولية استضافت القوى والفصائل، وكان الفشل هو العنوان الأبرز في كل هذه المحاولات.
ويُصاب الفلسطيني بحالةٍ من اليأس والإحباط وهو يراقب قياداته التي لم «تنجح» في معركة حقيقية واحدة كما «نجحت» في فشل إنهاء الانقسام. فإذا كان الفشل ــ يسأل نفسه الفلسطيني ــ هو النتيجة التي انتهت إليها كل هذه الاجتماعات واللقاءات وكلّ هذه المحاولات فنحن أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن القوى والفصائل ومن لفّ لفّهم كانوا يذهبون إلى تلك الحوارات وهم يضمرون عدم الاتفاق، أو أنهم كانوا يُفشلون الاتفاقات حتى وإن تم التوقيع عليها؟!
في كلا الحالتين هناك من تبرّع بالإفشال، وهناك من عمل كل جهوده لوضع العراقيل الكافية لهذا الإفشال.
الفشل والإفشال لا يمكن أن تكون أسبابه تلك السياسية، أو التي تتعلق بالتمثيل السياسي، والشرعي، ولا يمكن أن تكون الحصص والمصالح فقط، إذ لا يمكن أن تكون هذه المصالح والحصص بمعناها الكمّي المباشر، ولا يمكن بالتالي أن تكون أسبابه في شيء في هذا كله. هناك من الأسباب ما هو أعمق وأكبر من ذلك!
لماذا لا نحاول البحث عن حقيقة «العقدة» التي وضعت «المنشار في دواليب كل محاولات إنهاء الانقسام؟ ولماذا نظل على مدى عقدٍ ونصف العقد ندور في نفس الدائرة، طالما أن كل تلك الأسباب منفردة، ومجتمعة قد اشبعت نقاشاً، وتم «الاتفاق»  سابقاً على سوادها الأعظم، ومع ذلك لم نحصد سوى الفشل؟
علينا أن نعترف أولاً أن «اكتشاف» العقدة ليس بالأمر السهل في ظل حالة انعدام الوزن في الحالة الوطنية، وفي ظل حالة الانفلات الإعلامي التي تشهدها الساحة الوطنية، وفي ظل حالة الفوضى التي تحكم الأداء الفلسطيني، وحالة الانفكاك عن الواقع التي تميز هذا الأداء على جانبي معالجة التزاحم والصراع.
وقبل أن أحاول المساهمة في هذا «الاكتشاف» فإن حالنا يشبه طرفة معروفة مفادها أن عاملين كانا يحملان آلة بيانو كبيرة على درج إحدى العمارات، وقد بلغ بهما التعب ما بلغ واضطرّا إلى التوقف قليلاً في الطابق العاشر من العمارة للاستراحة.
سأل أحدهما زميله:
قُل لي ما هي الأخبار طالما أننا نجلس لاستراحة صغيرة؟
أجاب زميله قائلاً:
لديّ لك خبر جيد وآخر سيئ!
قال الآخر، هات، ولنبدأ بالخبر الجيد.
فأجابه زميله: الخبر الجيد هو أننا الآن في الطابق العاشر، وبعد طابقين فقط سنصل إلى الشقة المطلوبة.
فعاد وسأله عن الخبر السيئ.
فأجاب صديقه: أخشى يا صديقي أننا قد أخطأنا باب العمارة.
وأزعم هنا أن حالنا، نحن معشر الفلسطينيين هو حال العاملين إيّاهما!
لقد أخطأنا عندما اعتقدنا أن «الانقسام» هو مجرد خلاف واختلاف سياسي، وأخطأنا عندما اعتقدنا أن المسألة مسألة حصص لهذا الطرف أو ذاك، وأخطأنا عندما اعتقدنا أن الانقسام هو مجرد تزاحم على التمثيل السياسي.
أخطأنا لأننا لم ننظر إلى هذا الانقسام كمشروعٍ ونهج، وأخطأنا أكثر عندما اعتقدنا أن هذا الانقسام هو على القضية والحقوق في حين أنه ليس سوى على السلطة والمكاسب.
أخطأنا عندما اعتقدنا أن مشروع الانقسام كان مشروعاً فلسطينياً، و»رفضنا» أن نصدق أن هذا المشروع قد نشأ وترعرع في كنف إسرائيل، وفي كنف المشروع الإسرائيلي بمساعدة ومساندة بعض القوى الإقليمية ومنها العربية، وأخطأنا عندما اعتقدنا أن «سلخ» أكثر من مليوني فلسطيني من المعادلة الديمغرافية كان مجرد كلام مثقفين، أو كلام «جرايد» كما يُقال.
أخطأنا عندما اعتقدنا أن هناك «فيتو» من هذا الفصيل أو ذاك على المصالحة، ونسينا أو تناسينا أن «الفيتو» الأول هو «الفيتو» الإسرائيلي.
إسرائيل قامت بعدوان على قطاع غزة استمر لما يقارب الخمسين يوماً بعد أن اشتمّت رائحة مصالحة حقيقية، وإسرائيل خاضت حروبها على القطاع «لضبط» حركة حماس في إطار المشروع وليس الخروج عنه، وما زال الوضع على ما هو عليه.
إسرائيل الآن تجهر بأن الأمن هو مقابل الغذاء، ثم مقابل التسهيلات، وبشرط بقاء الانقسام.. وإسرائيل اليوم تمنع وتُمانع في إنهاء الانقسام، وهي التي تنزع صلاحيات السلطة في كل يوم، وهي التي تتفرّغ لابتلاع الضفة وتهويد القدس، وهي التي تحاصر السلطة، وشرطها الأساسي هو «الأمن مقابل الاقتصاد»، ولا شيء غير التسهيلات، وبشرط بقاء الانقسام، ولهذا فإن (فيتو) «حماس» على إنهاء الانقسام هو عدم خضوع القطاع لسلطة واحدة.
باختصار، فإن إنهاء الانقسام بات يتطلّب خروج «حماس» من الرعاية الإسرائيلية لمشروع الانقسام وقبولها لأن يكون القطاع جزءاً لا يتجزأ من سلطة واحدة، وخروج السلطة من الوصاية الإسرائيلية، وإعادة فرض «علاقة» جديدة متحرّرة من القيود الإسرائيلية «السياسية» على أقل تقدير، وهو الشرط الأهمّ لإنهاء الانقسام.
هنا تكمن «عقدة» فشل كل محاولات إنهاء الانقسام، لأن كل من حاور وتحاور وناقش، وأرهق نفسه بالبحث عن آليات إنهاء هذا الانقسام لم يحاول ــ بحدود ما نعلم ــ أن يبدأ من هذه النقطة بالذات.
أما المصيبة فهي أن لعبة الانقسام وإنهاء الانقسام تستمر، وكأن الخلاف والاختلاف على هذه المسألة أو تلك من المسائل والقضايا التي لم تعد سوى حالة من التكرار المملّ لشعارات هدفها الأول والأخير الهروب والتهرُّب من جوهر المسألة ومن استحقاقاتها.
وصل الانقسام إلى مستوى جديد من المأسسة، بحيث أن المراجعة والتراجع بات صعباً ويحتاج إلى معجزة فلسطينية في زمنٍ ولّت معه كل المعجزات، وفي زمنٍ تحولت القضية الوطنية إلى صراعٍ على هوامش صغيرة من فتات سلطات لا سلطة لها.
أما المصيبة الأكبر فهي أن الصراع على السلطة ومكاسبها ستكون له قيمة أكبر وأهمّ بكثير فيما لو كانت سلطة واحدة وموحَّدة، لكن أهل هذه السلطات ــ حتى بهذا ــ لا يؤمنون.