دلالة "أوبك+": الرّياض حسمت خياراتها

حجم الخط

بقلم عبدالوهاب بدرخان

كيفما قدّم "تحالف أوبك +" قراره خفض إنتاج النفط، فإنه لن يُفهم في الولايات المتحدة والدول الغربية إلا بأنه "معادٍ" أو "منحاز" إلى روسيا وحربها على أوكرانيا. فاللحظة الراهنة تفرض هذه القراءة، لكن كان الأحرى أن يؤخذ القرار على حقيقته، وهي أن الدول المصدّرة للنفط لا تتماهى مع روسيا وحدها ولا تؤيّد بالضرورة حربها، وليست في حال عداء مع أوكرانيا، بل لديها فرصة للحصول على أسعار عالية في الأسواق ولا تريد أن تفوّتها. ولو كانت الأدوار معكوسة لما تصرّفت دول الغرب بشكل مختلف، ولما ارتضت أن تخسر أو تكسر أسعارها أياً تكن الاعتبارات السياسية.

 

كان هذا "التحالف" قد ولد أساساً في 2016 للتعامل مع مشكلة تقلّب الأسعار، بعدما عانت الدول الثلاث والعشرون المنتجة، داخل "أوبك" وخارجها، تأثيره في استقرار موازناتها الداخلية، ولم يكن ممكناً الحصول على سعر مقبول للبرميل إلا بقرار جماعي يرفع الإنتاج أو يخفضه وفقاً لحاجة الأسواق. 

 

منذ بداياته وجد هذا "التحالف" نفسه في مواجهة دائمة مع الولايات المتحدة التي أصبحت دولة مصدّرة منافسة، لكن الإدارة الأميركية السابقة مرّرت الخلافات بشيء من الهدوء والمرونة بسبب سياسة المهادنة التي اتبعها دونالد ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وسياسة التقارب والصفقات الكبرى مع القيادة السعودية ودول الخليج. ومع ذلك لم يتحمّل ترامب حرب الأسعار التي حصلت عام 2020، وسط زخم جائحة "كوفيد 19"، بل هدّد بضرائب وعقوبات، ولم تهدأ تلك الحرب إلا بتفاهم روسي - سعودي. وفي أي حال، استمر "أوبك +" كإطار أنهى عملياً تحكّم واشنطن بالأسعار، إذ قلّص تأثيرها في تحديد نسب الإنتاج وخرائط التصدير. لكن أزمة الطاقة الحالية انبثقت من حرب أصبحت "عالمية" بتداعياتها الاقتصادية، ورغم أن مجرياتها العسكرية لا تزال داخل أوكرانيا، إلا أن عمليات التسليح التي ترافقها تنذر دائماً بإمكان توسّعها جغرافياً.

 

بالنسبة إلى واشنطن، هناك دولتان أساسيتان في "أوبك +"، روسيا الواقعة تحت العقوبات الغربية بسبب الحرب وتبحث عن أي وسيلة لتوظيف تلك العقوبات في تأزيم الأوضاع الاقتصادية في دول الغرب، والسعودية التي يعتبرها الغرب تاريخياً حليفة أو صديقة له، لذا كانت واشنطن تتوقع أن تتخذ الرياض منحىً آخر. والواقع أنه لم يكن لديها أي سبب لتبنّي هذا التوقع، فالاتصالات المستمرة بين الخبراء الأميركيين والسعوديين كانت واضحة في خلاصة صاغها وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان كالآتي: "أولاً وأخيراً تهمنا مصالح المملكة العربية السعودية ثم مصالح الدول التي وثقت بنا وكانت ولا تزال أعضاء في أوبك وتجمع أوبك +"، وبقوله أيضاً إن "أوبك ترعى مصالحها ومصالح العالم، لأن لدينا مصلحة في دعم تنمية الاقتصاد العالمي وتوفير الطاقة بطريقة مثلى"...

 

لكن من الواضح أن الجانب الأميركي كان مصراً منذ البداية على أن أي تخطيط للسوق النفطية يجب أن يأخذ في اعتباره انعكاسات حرب أوكرانيا وكيفية التعامل الغربي معها.

0 seconds of 0 secondsVolume 0%

 

لم تكن الرياض متجاهلة المتغيّرات التي فرضتها الحرب، لكنها لم تجد أن هذه لحظة مناسبة لفك التحالف مع موسكو في "أوبك+" ما دام يؤمّن استقراراً لسوق النفط بعيداً من التسييس. لذلك أصرّت على أن تبقى إدارة النفط، إنتاجاً وتصديراً وتسعيراً، خاضعة لقواعد السوق ومعطياتها ومؤشراتها. وبمراجعة يومية للأرقام، تبيّن أن هناك تراجعاً في الطلب وفائضاً في النفط المعروض، وهذا ما فسّر بداية هبوط الأسعار إلى ما تحت الـ90 دولاراً للبرميل، وما شكّل أيضاً إنذاراً لمختلف الدول المصدرة، إذ إن أخشى ما تخشاه هو اتجاه الاقتصادات العالمية إلى الركود. لذا كان قرار خفض الإنتاج النفطي مليوني برميل يومياً للحفاظ على توازن العرض والطلب في السوق، وكذلك لإبقاء الأسعار عند مستوى معين مقبول. 

 

أما الخيار الآخر، أي زيادة الإنتاج كما تطالب واشنطن، فكان ينطوي بالنسبة إلى الدول المصدّرة على خطريْن: الفوضى والسقوط الحرّ للأسعار. ويلفت خبراء خليجيون من "أوبك" إلى وجود خلط لدى الرأي العام العالمي في تفسير أزمة الطاقة، فالنقص الحالي هو خصوصاً في كميات الغاز بعد وقف تدفقه من روسيا إلى أوروبا، أما النفط الخام فمتوفّر، لكن تناقصاً في مصانع التكرير طوال العقدين الأخيرين جعلها غير قادرة على تلبية الحاجات الفعلية للسوق وساهم في صنع الأزمة الحالية. ولعل ما حتّم أيضاً خفض الإنتاج أن مجموعة الدول الـ7 كانت ولا تزال تدرس إمكان تحديد سقف لأسعار النفط، ومع أنها تستهدف منع روسيا من تصدير نفطها وإبقاء ضغط العقوبات عليها، لكن إجراءً كهذا لا بدّ أن ينعكس على الدول المصدّرة الأخرى.   

 

في أي حال، جاء قرار "أوبك+" بمثابة اختبار آخر للعلاقات بين الرياض وواشنطن، فرغم ما فيها من جوانب "استراتيجية"، إلا أنها عانت ولا تزال تراجع الثقة لدى الجانب السعودي الذي عرف في العقدين الماضيين أربعة رؤساء أميركيين، كان لكلٍّ منهم دوره في العبث بالاستقرار الإقليمي، سواء بغزو العراق واحتلاله ثم تسليمه إلى إيران، أم بعدئذ بالتعامل مع البرنامج النووي الذي لن يمنع إيران من الحصول على قنبلتها، لكن الأهم أنه لم يفلح في ردع هيمنة إيران وميليشياتها على أربعة بلدان عربية. وثمة وقائع عديدة ساهمت في التشكيك بنيّات الولايات المتحدة وأهدافها: عدم ممانعتها بل إفساحها المجال لتدخل إيراني في البحرين (2011) ومن ثمَّ انتقادها التدخل الخليجي بطلب من المنامة... ضرب المنشآت النفطية في السعودية من دون الرد عليه ولو في مجلس الأمن... مواصلة اعتبار حرب اليمن "لا معنى لها" رغم وضوح استهدافها للسعودية، والتدخل عام 2018 لوقف الزحف على الحديدة وإنقاذ الحوثيين من الهزيمة، فضلاً عن التدخل الحالي لهندسة "نهاية" للحرب ترضي إيران وحوثييها... بالإضافة طبعاً إلى مجمل السياسات الأميركية بالنسبة إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وما يحصل في إطار المفاوضات النووية.

 

على هذه الخلفية يمكن فهم التقارب السعودي، والخليجي عموماً، مع الصين وروسيا. ليس في الأمر تخلٍّ عن علاقة تاريخية، بل سعي إلى "تصحيح المسار". ورغم أن الرياض لا تزال مرتبطة وملتزمة باتفاقات دفاعية مع واشنطن، إلا أنها تبدو كأنها تخلصت من وهم "الحماية الأميركية" ولم تعد تخشى سحب القوات الأميركية من هنا أو هناك، أو تهديد الكونغرس بحجب أسلحة عنها يمكن أن تجدها لدى مصادر بديلة، أو بحث جو بايدن عن بدائل للردّ على قرار "أوبك+".