بعد نحو أسبوع فقط من تجييش إسرائيل لقوتها الأمنية للبحث عن منفذ عملية تل أبيب، نشأت ملحم، عادت أجهزة الأمن وقطاعات الجيش، بما في ذلك المروحيات للبحث عن فتاة تدعى ديانا حداد، قيل أنها «تنوي» القيام بعملية استشهادية.
ويقال انه ما أن يطلق أحدهم، ولو من باب الدعابة صيحة وجود تهديد أو أن احدهم يحمل سكينا، حتى تتداعى قوات الأمن الإسرائيلية، فيما تدب حالة من الرعب بين صفوف المواطنين الإسرائيليين، بما يعني أن إسرائيل باتت بعد ثلاثة أشهر ونصف من اندلاع الهبة الشعبية في القدس والخليل، في حالة من الفزع وربما الرعب، الذي يشير إلى هشاشة الحالة النفسية الداخلية، وربما كان للأمر علاقة بوعي داخلي عميق يدل على أن الوعي الجمعي الإسرائيلي / اليهودي يدرك في أعماقه انه مستبد وظالم، تماما كما هو حال اللص الذي لا يعرف طعم النوم ولا الأمان، لأنه يتوقع في كل لحظة القبض عليه متلبسا.
ما يلفت الأنظار إلى واقعة ملحم ومن ثم ما أشيع عن الفتاة حداد، مع أن الواقعة الأولى كانت حقيقية والثانية كانت افتراضية، هو أن أرض الحدث كانت «دولة إسرائيل» وليس أرض فلسطين المحتلة منذ عام 1967، بما يعني أن استمرار المواجهة الحالية، وإن كانت ما زالت محدودة في مناطق محددة، كذلك ضمن قطاعات محددة، أي أنها لم تتحول إلى مواجهة شاملة بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين، إلا أنها لا تهدد فقط بتحول العلاقة بين الجانبين إلى مواجهة شاملة وحسب، ولكن بفتح كل الملفات التي بدا أن بعضها قد أغلق منذ وقت طويل.
ونقصد بذلك أن هناك حالة من التعاطف بين صفوف الشباب العربي / الإسرائيلي وبين شباب القدس والخليل، تماما كما يحدث دائما في أماكن مختلفة ومتفرقة من العالم، خاصة وأننا بتنا نعيش في زمن انفتحت فيه حدود التواصل الاجتماعي بين البشر على مصراعيها .
كذلك فان نجاح بعض الشباب العربي في إسقاط أنظمة مستبدة في أكثر من مكان، بات أمرا ملهما للشباب الفلسطيني، الذي لم يعد ينتظر فصائله أو قياداته التقليدية لتحقق له مهمة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، هذا بالطبع إضافة إلى أن الشباب العربي / الإسرائيلي ربما يريد أو يسعى للقول بان الظلم والاستبداد لا ترتكبه إسرائيل فقط على مستوى احتلال القدس والضفة الغربية وحسب، ولكن أيضا على مستوى التمييز العنصري داخل إسرائيل نفسها.
هل رأى نشأت ملحم في نفسه محمد بوعزيزي آخر، أم انه سعى لان ينضم إلى قافلة الشهداء من مستلي السكاكين في القدس والخليل، لا نملك إجابة قاطعة على هذا، ولكن الأمر يستحق عناء البحث والتفكير، وإذا كانت إسرائيل لا تمتلك إلا القدرات الأمنية وليس في جعبتها إلا الرد الأمني على كل «تهديد» أو كل مواجهة لسياساتها الاحتلالية أو العنصرية، فانه يمكن بذلك القول بأن على تلك الدولة «السلام» عاجلا أم آجلا، ذلك انه ما لم تعالج الأسباب الحقيقية وما لم يتم التوصل إلى حلول عادلة لحالة صراع قائمة بين كتل بشرية أو مجاميع من البشر، فبكل الأحوال، وان كان حتى اللحظة _ خاصة ما يحدث داخل حدود الخط الأخضر _ مجرد أعمال فردية، فانه مجرد أن تقول إسرائيل بان الدوافع هي من طبيعة «قومية» فان ذلك يعني بان هذه الأعمال وان كانت لا تزال فردية فإنها ربما تتطور لاحقا إلى حالة عامة أو جماعية.
في السياق لفتت انتباهنا حادثة رفض فتاة إسرائيلية الخدمة في الجيش الإسرائيلي احتجاجا على كون إسرائيل دولة تحتل أراضي الغير، في واقعة لم تحدث منذ عشر سنوات، فبما يزيد من احتمالات توقع أن تتحول كرة ثلج الهبة الشعبية في القدس والخليل، بهدوء، وبعد أن يظن قادة إسرائيل بأنهم سيطروا على الأمر، إلى كرة نار، تتدحرج لتحرق كل ما تجده في طريقها.
أول خطوة برأينا على إسرائيل معالجتها، هي قصة احتلالها لأكثر من مليونين ونصف المليون فلسطيني في القدس والضفة الغربية، وان كان ضعف السلطة وانقسام الفلسطينيين يغري إسرائيل بعدم «التنازل» بالانسحاب من تلك المناطق، فإنها تكون مخطئة جدا، ذلك أن هذا الإغراء يضعها في مهب الريح، لأنه عاجلا أم آجلا، لابد لها هي وحتى لو لم يكن هناك شريك فلسطيني، أن تجد حلا لاحتلالها هذا، فإما أن تقوم بضم تلك المناطق بسكانها لدولة إسرائيل، أو أن تقوم بخلق معازل فيها، وفي الحالتين، ستجني على نفسها براقش، لذا فانه ما زال أفضل حل لها، وليس للفلسطينيين فقط أو بالضرورة هو أن تنسحب وتسمح بإقامة دولة فلسطينية تساعد على إقامة سلام إقليمي ! «تحرر» إسرائيل من جناية الاحتلال، سيفتح لها الباب لتتحرر من جناية التمييز العنصري، حيث يصبح بمقدورها أن تتحول من دولة علمانية على الورق وهي في الواقع دولة شبه دينية يهودية، إلى دولة لكل مواطنيها، دولة مدنية حديثة، ليست دولة يهودية وان كانت دولة لليهود وللعرب، حينها فقط يمكن أن يقبل بها المحيط العربي / الإسلامي، فمشكلة إسرائيل، فيما لو تجاوزت الفلسطينيين ستصبح مع العرب والمسلمين، تماما كما هو حال لبنان مثلا، وكما هو حال كثير من دول المنطقة متعددة الأديان والطوائف، القوميات والإثنيات.