كل ما تهل البشاير..!!

الكاتب حسن خضر
حجم الخط

في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام حبس العالم أنفاسه، وتسمّر ملايين العرب قبالة شاشة التلفزيون، أما مَنْ تصادف وجودهم في عواصم، وبلاد، الربيع العربي، فقد شاركوا في صناعة حدث من حجم ووزن التحوّلات التاريخية الكبرى. يطلق البعض، منذ سنوات قليلة، وفي هذه الأيام، تسمية "الربيع الذي تحوّل شتاء"، على ذلك الحدث التاريخي الكبير، ويزدريه البعض الآخر في عبارات من نوع "ما يدعى بالربيع العربي" أو "الربيع العربي المزعوم"، وهذه العبارات وغيرها تدل على أمرين: على إحساس بخيبة الأمل أولاً، وعلى نوع من التشفي، خاصة من جانب من ارتعدت فرائصهم في موجة الربيع من حدث بهذا الحجم والوزن ثانياً.

وبقدر ما أرى الأمر، فإن موجة الربيع العربي هي الحدث الأهم، والأكثر نبلاً، في تاريخ العالم العربي منذ قرون، ومصدر الإحساس بخيبة الأمل ناجم، في نظري، عن فشل في فهم معنى الثورة، وعن تفكير رغبي يلوم أصحابه الموجة الثورية لأنها فشلت في تحقيق أهدافها.

قبل الكلام في موضوع كهذا، تجدر العودة إلى تلك اللحظات المباركة في عواصم الربيع العربي، ففي حينها شعر ما لا يحصى من العرب أنهم يشهدون حدثاً لم يتصور أحد منهم أنه سيراه في حياته.

لم يتوقع أحد حدثاً بهذا الحجم، لا في العالم العربي، ولا خارجه، وهذا مفتاح أوّل للكلام عن، وفي موضوع، الربيع العربي: لم يتوقعه أحد. هذا المفتاح وثيق الصلة بمعنى ومبنى فكرة الثورة (مطلق ثورة) في أربعة أركان الأرض.

ولمفتاح كهذا دلالة خاصة، في العالم العربي، الذي اكتسبت فيه مفردة وفكرة الثورة، على مدار عقود طويلة، خصائص سحرية، وعلاجية.

ومن سخرية القدر أن مَنْ أسهموا أكثر من غيرهم في تكريس تلك الخصاص، كانوا حفنة من الانقلابيين والمغامرين، الذين أضفوا على وصولهم إلى سدة الحكم صفة الثورة، والثورة منهم براء. وبقدر ما أسهموا في تكريس تلك الخصائص، بقدر ما أصبحت فكرة الثورة الحقيقية، في أذهان ما لا يحصى من العرب، حلماً بعيد المنال.

وبقدر ما كانت موجة الربيع مفاجئة، جاءت مضامينها الاجتماعية والسياسية مفاجئة، أيضاً. وهذا هو المفتاح الثاني. فقبل موجة الربيع حتى بربع ساعة كانت لدى ما لا يحصى من العرب والعجم قناعة بأن الإسلاميين هم القوّة الأكبر والأهم في العالم العربي.

وهي الفكرة التي أسهم الطغاة في تكريسها لإقناع حماتهم وحلفائهم في الغرب: إما نحن أو الإسلام السياسي والفوضى. ومن سخرية القدر أن الحماة والحلفاء، في الغرب، اقتنعوا بتلك الفكرة، إلى حد أنهم فكروا في إصلاح أنظمة "صديقة" و"حليفة"، أصبحت عبئاً عليهم، ولكن عن طريق الإسلاميين أنفسهم، بعد المفاضلة بين المعتدلين والمتطرفين، ومحاولة توظيف هؤلاء في احتواء أولئك، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، والحرب الأميركية على الإرهاب.

وعلى خلفية كهذه تتجلى المفاجأة في المضامين الاجتماعية والسياسية لموجة الربيع العربي، التي اختزلها شعار: الخبر، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. وهذه مضامين علمانية ودنيوية، تماماً، جنّدت الملايين. وهذا ما لم تفشل كل قوى الثورة المضادة في إدراكه، والعمل على تداركه. ولعل في هذا ما يقود إلى المفتاح الثالث، الذي سيفسّر، في جانب منه، حالة التفكك والفوضى، التي أعقبت موجة الربيع العربي، وأسهمت في إجهاض الموجة الثورية الأولى. فمَنْ ارتعدت فرائصهم من الثورة المفاجئة، ومضامينها الاجتماعية والسياسية المفاجئة، أدركوا أن نجاح الثورة مشروط بالمضامين، فإذا تمكنوا من تعديلها، وتطويعها، نجحوا في الحد من الأضرار السياسية والاجتماعية والأيديولوجية، لشعار "الشعب يريد إسقاط النظام" غير المسبوق في تاريخ العرب.

وفي سياق كهذا تبلور الرهان على حصان الإسلام السياسي في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وفي سورية (التي تجلى فيها الرهان بطريقة كارثية تماماً). طرحنا ثلاثة مفاتيح للكلام في، وعن، موجة الربيع العربي. ومع ذلك تبقى مسألة أخيرة: الثورة، في ذاتها، ليست بالأمر الإيجابي أو السلبي، ولا معنى، في الواقع، للكلام عن ثورات الربيع العربي من زاوية افتقارها للقيادة والبرنامج، وتعليل فشلها بغياب الاثنين.

فالثورة تقع في لحظة رمادية بين ماض لم يمض تماماً، ومستقبل لم يُولد بعد. وبهذا المعنى لا يمكن التحقق من نتائجها النهائية قبل مرور وقت طويل، كما كان الشأن مع الثورة الفرنسية، وثورات العام 1848، التي احتاجت عقوداً طويلة، وشهدت هزائم وخيبات أمل وحروباً كثيرة، قبل أن تورق بذورها الخضراء في دساتير الديمقراطيات الليبرالية الغربية، ومواثيق حقوق الإنسان، وما لا يحصى من الحريات الفردية والعامة.

وإذا استعرنا عبارة ذات دلالة من الفرنسي ريجيس دوبرية، يمكن القول: إن التاريخ يدخل الفصل الجديد مُقنّعاً بقناع الفصل السابق. وقد أعلنت موجة الربيع العربي المباركة، بصرف النظر عمّا نراه اليوم من هزائم وخيبات أمل، وحروب كثيرة، نهاية فصل وبداية فصل جديد في تاريخ العرب. هناك تحت التربة، في المخيال الجمعي للعرب، وفي قلوبهم، وسواعدهم، ترقد بذور خضراء، لا نعرف متى ستورق، ولكنها ستورق، بالتأكيد. وهذا ما لا ينبغي أن يغيب عن ذهن أحد "كل ما تهل البشاير من يناير كل عام".