بعد الاطمئنان على صحته، جاء خطاب الرئيس محمود عباس مخيبًا للآمال، ليس بما ورد فيه فحسب، بل لتجنبه تقديم إجابة عن التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية وتوظيف الفرص المتاحة، فلم يشر الخطاب إلى آلية انتقال السلطة بعده، وكيفية تحقيق الوحدة الوطنية، ولا إلى توفير متطلبات استمرار الموجة الانتفاضية، وتطويرها، وتحويلها إلى انتفاضة شاملة ذات قيادة وأهداف محددة، جنبًا إلى جنب مقاطعة إسرائيل وملاحقتها على جرائمها، على كل المستويات والمحافل الدولية.
فبدلًا من تقديم الخطاب إجابة عن سؤال «ما العمل» في ظل تصاعد العدوان والاستيطان والعنصرية والتطرف الإسرائيلي يجري الترويج مرة أخرى لإعادة إنتاج العملية السياسية عبر مؤتمر دولي لن يؤدي إلى شيء مختلف ما لم يتم تغيير موازين القوى التي أدت إلى ما نحن فيه.
انتقل الرئيس في هذا الخطاب من التهديد بحل السلطة عبر تسليم مفاتيحها للاحتلال إلى اعتبارها إنجازًا وطنيًا لن يتحول إلا لإقامة الدولة. ولم يفسر الرئيس سبب هذا التغيير، هل يعود إلى استنفاد التكتيك بحل السلطة لأغراضه، أو لأنه لم يكن جديًا منذ البداية، أو لاكتشافه بأنه خاطئ أصلًا.
فالمطلوب منذ زمن طويل ليس حل السلطة أو انهيارها، وإنما تغيير طبيعتها وشكلها ووظائفها في سياق بناء بدائل متكاملة، بحيث تصبح من سلطة شريكة للاحتلال ضمن عملية سياسية إلى سلطة مقاومة للاحتلال، أو على الأقل مجاورة للمقاومة.
طبعًا، يمكن أن يؤدي هذا إلى قيام الاحتلال بحلها، ولكن في هذه الحالة سيكون البديل الوطني جاهزًا. هل يعود التراجع عن التهديد بحل السلطة بسبب ما أدى إليه من تقريع عربي ودولي وفتحاوي وفلسطيني، ما أدى إلى الاستدارة الكاملة من التهديد بحل السلطة إلى اعتبارها «إنجازًا».
وفي غمرة هذه الاستدارة سقطت أو يمكن أن تسقط قرارات المجلس المركزي التي تبنتها اللجنة التنفيذية، فلا يمكن الجمع بين السلطة «الإنجاز» المقيدة بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية مع إعادة النظر جذريًا في العلاقة مع الاحتلال، بما يشمل وقف التنسيق الأمني وإنهاء التبعية الاقتصادية، وصولًا إلى سحب الاعتراف بإسرائيل ما لم تعترف بالدولة الفلسطينية كما جاء في تلك القرارات.
إن التغيير في الخطاب السياسي الفلسطيني من «سلطة بلا سلطة» إلى السلطة «الإنجاز» يعني أن بقاء السلطة أصبح هو الغاية، ولم تعد أداة لإزالة الاحتلال وإقامة الدولة، على الأقل، في هذه الفترة وإلى أن تتوفر الظروف لاستئناف المسيرة السياسية التي توقفت ومرشحة للتوقف لمدة عام واحد على الأقل ومرشحة للتمديد إلى أجل غير مسمى.
لا يمكن أن يصبح بقاء سلطة الحكم الذاتي المحدود هو الهدف، لأنه هدف إسرائيل الذي يمكّنها من إدارة الصراع وليس حله، وتوظيف ذلك للتغطية على استكمال خلق أمر واقع يجعل الحل الإسرائيلي بإحدى صيغه هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.
أنا أزعم ولا أجازف كثيرًا بذلك بأن حديث الرئيس عن السلطة بأنها إنجاز، وعدم تكرار الحديث عن السلطة التي أصبحت بلا سلطة كما دأب في الآونة الأخيرة، وعن قرارات المجلس المركزي التي لم يتطرق إليها الرئيس في متن خطابه، ولم يشر إليها إلا كرد على سؤال طُرح عليه بعد إنهاء الخطاب، وتضمنت الإجابة أن هناك اجتماعات ستعقد للبحث في الموضوع، ما يدل على استمرار التخبط والوقوف على الرأس بدلًا من القدمين، لأن الأصل في الأمور عند اتخاذ القرارات أنها تدرس، ثم تتخذ، ثم تنفذ، أما عندنا فاتخذت القرارات ثم درست ولم تنفذ، لأن الدراسة المتأخرة أثبتت بالرغم من المكابرة بأن تنفيذ هذه القرارات يترتب عليه ثمن لا تقوى السلطة على دفعه.
فالسلطة تعتمد على تحويلات العوائد الجمركية التي تجمعها إسرائيل، وعلى أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات، وكذلك على أموال الدول المانحة التي تقدم للسلطة طالما استمرت في العملية السياسية . إن وقف التنسيق الأمني (وهو أهم قرارات المجلس المركزي) مطلوب منذ زمن طويل، منذ اللحظة التي بدا فيها أنه لا يوجد حقًا عملية سياسية يمكن أن تقود إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، وإنما إلى عملية خداع كبرى تستخدم للتغطية على مصادرة وتهويد واستيطان المزيد من الأراضي، وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني لدفعه إلى الهجرة «الطوعية» بهدوء، إلى أن تتوفر اللحظة المناسبة لتهجيره بأعداد كبيرة.
هل استعادت السلطة سلطتها حتى أصبحت «إنجازًا» فجأة بالرغم من أن حكومة نتنياهو حذّرت من انهيارها، وتعهدت بأنها ستبذل كل ما تستطيعه لمنع هذا الانهيار، بالرغم من أنها بما تفعله أوصلتها إلى حافة الانهيار حتى تبقى تحت الابتزاز والضغط الإسرائيلي.
فإسرائيل لا تريد لها الانهيار، لأن السلطة تقدم خدمات كبرى لإسرائيل، أهمها إزالة مسؤوليتها عن السكان. كما أنها تتعاون مع الاحتلال لتوفير الأمن كشرط لضمان استمرارها، أي بقاء السلطة مقابل أمن الاحتلال وليس أي شيء آخر، ليس دولة مثلًا، وإذا توقف التعاون الأمني ستقوم إسرائيل بحل السلطة.
طبعًا، إذا انهارت السلطة أو حُلّت ستحاول إسرائيل إعادة بنائها بحيث تكون مطواعة أكثر لمتطلبات إنجاز المشروع الاستعماري الاستيطاني. يتضح ذلك من المراهنة الإسرائيلية الواردة في تصريحات موشيه يعالون على أن إلقاء مفاتيح السلطة سيجعل أيدٍ فلسطينية كثيرة من «فتح» وغيرها مستعدة لاستلامها. بكل أسف، يمكن أن يكون مع يعالون بعض الحق، لأن فترة أكثر من عشرين عامًا على إقامة سلطة أوسلو أوجدت أوضاعًا سياسية واقتصادية وثقافية وأصحاب مصالح ستقاتل من أجل بقاء السلطة وإعادة بنائها إذا انهارت أو حلّت، إضافة إلى تأثير إسرائيل أولًا وقبل كل شيء، والأطراف العربية والإقليمية والدولية التي تخشى من عواقب انهيار السلطة.
هل يعني ما سبق أن السلطة يجب أن تحافظ على التنسيق الأمني حتى لا تُحَل كونها إنجازًا، ولأن حلها من الاحتلال هو الثمن الذي ستدفعه إذا أقدمت على وقف التنسيق الأمني، لا طبعًا، بل يتطلب وضع وقف التنسيق الأمني في سياق رؤية جديدة شاملة تسعى لتوفير وبناء بدائل عن المسيرة السياسية والسلطة، حتى لايؤدي حلها أو انهيارها إلى الفوضى والفلتان الأمني، والفراغ الذي ستسعى قوى وأطراف عديدة لملئه، ما سيؤدي إلى الاقتتال والتناحر، ويمكن أن ينجح الاحتلال في ملئه من خلال إعادة بناء السلطة أو السلطات بصورة تناسبه أكثر من السلطة الحاليّة، التي هي بالإجمال مفيدة له، ولكن جريمتها أنها تعاطفت مع «الانتفاضة»، وتساهم في التحريض، ولا تعمل كل ما تستطيعه 100% من الجهد لمنعها.
بعبارة أخرى، من يريد وقف التنسيق الأمني عليه أن يقوم بعملية تغيير شاملة، فلا يمكن لمريض في العناية المشددة أن يبارز بطل العالم في الملاكمة بالوزن الثقيل، ولا أن يحارب قبل أن يتعافى ويؤهل نفسه للحرب. فلا يمكن للقيادة الفلسطينية أن تعلن الحرب الشاملة على إسرائيل بوقف التنسيق الأمني وهي تحت رحمة الاحتلال، وتفتقد لمعظم أوراق القوة التي تخلت عنها في غمرة اللهاث وراء وهم إقامة دولة عبر المفاوضات، وحسن السلوك وإثبات الجدارة، وبناء مؤسسات الدولة، ووضع مؤسسات المنظمة تحت الاحتلال.
لا يمكن إعلان الحرب والمنظمة مشلولة والانقسام يتعمق والفصائل في حالة يرثى لها، بينما «فتح» مترهلة ومستنزفة في الصراع والخلاف على المناصب والمكاسب وموقعها في السلطة، وعلى الخلافة.
بدلًا من استمرار الخلاف والصراع الداخلي على المكاسب والمصالح لا بد من التنافس على التوجهات والبرامج، والإجابة عن سؤال ما العمل بعد مراجعة عميقة تؤدي إلى مسار جديد قادر أولًا على توفير مقومات الصمود، والحفاظ على ما تبقى من مكاسب، وإحباط مخططات العدو، والتقدم على طريق توفير متطلبات إنجاز الحل الوطني في مرحلة لاحقة. الأمر الحاسم ليس أن يحل فلان محل علان، وإنما ما هو طريق الإنقاذ الوطني، ومن يستطيع قيادته، فلكل زمان دولة ورجال. فالمطلوب أيام الحرب ومقاومة العدو مختلف عن المطلوب أيام المفاوضات وشريك السلام، والمطلوب ليس مسارًا جديدًا فقط، وإنما بنية جديدة كذلك.