أعادتْ لي حادثةُ اغتيال آخر طفل فلسطيني بريء ذكرياتٍ شعريةً وتاريخية عن جرائم المحتلين بعد أن نجح المحتلون الإسرائيليون في إيقاف نبض قلب الطفل، ريان سليمان ذي القلب الغض الطري وهم يطاردونه، يوم 30-9-2022 ، لأنه كان يُهدد أمن احتفالهم بعيدهم!
أعادت لي صورتُه أيضاً مسلسل صور أطفالنا الذين اغتالهم جيش الاحتلال، أو أحرقهم المستوطنون، مثل محمد أبو خضير، وعائلة الدوابشة، وأطفال غزة، أعادتْ لي هذه المجازر قصيدةً للشاعر محمود درويش بعنوان «وعاد في كفن»:
«يحكون في بلادنا، يحكون في شَجَن، عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن، العمرُ عمرُ بُرعمٍ لا يذكرُ المطر، ولم يبكِ تحت شرفة القمر...»!.
كان محمود درويش بحاسته الشعرية عرَّافا حين قال في نهاية قصيدته: «قلبي على أطفالنا، وكلِّ أمٍ تحضن السريرا».
أعادت لي هذه القصة لقطة تاريخية أخرى ليست من فلسطين بل من مصر، خلّدها الفنُّ وليس السرد التاريخي، وهي مجزرة مدرسة بحر البقر المصرية، فهي ستظلُّ خالدة في ذاكرتي، لأنني كنتُ معاصراً لأحداثها.
قرية بحر البقر قرية فلاحين مصريين بسطاء في محافظة الشرقية، في القرية مدرسة ابتدائية وحيدة، انتقمت طائرات الفانتوم الإسرائيلية، بأمر من موشيه دايان، في شهر شباط 1970، ألقت عليها خمسَ قنابلٍ ضخمة، دمرتْ المدرسة كلها ومزقت أجساد ثلاثين طفلاً، أعمارهم تتراوح بين ست سنوات واثنتي عشرة سنة، وجرحت أكثر من خمسين طفلا آخر، انتقاماً من شجاعة الجيش المصري، في حرب الاستنزاف، وبخاصة في العملية الجريئة التي نفذها أبطالُ مصر باقتحامهم أحد حصون جيش إسرائيل المحتل، يوم 10-6-1969 في عملية، لسان بور توفيق، خلَّد أدباءُ مصر أحداث المجزرة في أفلام سينمائية عديدة، وفي مسلسلات للشباب وظلتْ قصيدة صلاح جاهين، «الدرس انتهى» شاهدا على المجزرة قال فيها: «دم الطفل الفلاح، راسم شمس الصباح، راسم شجرة تفاح، راسم تمساح بألف جناح، في دنيا مليئة أشباح»!
خلَّد الأدبُ والفنُّ أيضا أحداث مجزرة دنشواي التي ارتكبها المستعمر البريطاني مانح وعد بلفور، لأن تخليد الأدب والفن هو تخليدٌ عاطفيٌ لا يزول.
تقعُ قرية دنشواي المصرية في محافظة المنوفية، تأثَّرتُ بقصتها أثناء دراستي للشاعرين الكبيرين، أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فهما قد خلدا هذه القرية الريفية المصرية في ذاكرتي بأبيات شعرية سهلة وجميلة.
كان ثلاثةُ ضباطٍ بريطانيون محتلون يصطادون الحمام في قرية، دنشواي، عام 1906، وهو حمامٌ داجن، أطلق هؤلاء المحتلون رصاص بنادقهم فأحرقوا أكوام القش وبيوت الفلاحين، فطارد الفلاحون المنكوبون الضباطَ البريطانيين، مات أحد هؤلاء الضباط من الرعب ومن ضربة شمس، فأقدم الجيشُ البريطاني بأمرٍ من قائدهم، اللورد كرومر على التنكيل بالفلاحين الكادحين، شكلوا للقرية محكمة عسكرية فورية، أصدرت أحكامها بإعدام أربعة فلاحين، نُفذ الحكمُ فيهم فوراً في القرية نفسها، وسُجن وجُلد كثيرون، خلّد الشاعرُ حافظ إبراهيم هذه الجريمة في قصيدة حين قال ساخراً متألماً:
خَفِّضوا جَيشَكُم وَناموا هَنيئا.....
وَابتَغوا صَيدَكُم وَجوبوا البِلادا
وَإِذا أَعوَزَتكُمُ ذاتُ طَوقٍ......
بَينَ تِلكَ الرُبا فَصيدوا العِبادا
إِنَّما نَحنُ وَالحَمامُ سَواءٌ......
لَم تُغادِر أَطواقُنا الأَجيادا»!
أما الشاعر، أحمد شوقي قال:
«يا دنشواي على رُباكِ سلامُ......
ذهبتْ بأُنسِ ربوعِكِ الأيامُ
نيرونُ لو أدركتَ عهدَ كرومرٍ......
لعرفتَ كيفَ تُنفَّذ الأحكامُ»
أخيراً، هل سنُخلِّد ضحايانا الفلسطينيين أدبياً وفنياً، فالأدبُ والفن بمختلف أشكاله هو القادر على ترسيخ التاريخ في أذهان أبنائنا، بخاصة في الألفية الثالثة، ألفية شبكات التواصل الرقمية، لأن الفنون خلية عسلٍ تاريخية، تقوي الذاكرة الوطنية، بخاصة عندما يصبح هذا الأدب والفن منهجاً دراسياً، ومساقاً بحثياً في مدارسنا ومعاهدنا؟!