رغم المكانة الخاصة التي تحظى بها الجزائر لدى الشعب الفلسطيني بسبب دعمها المطلق له ولقضيته على الصعيدين الرسمي والشعبي إلا أن الإعلان عن استضافة الجزائر لحوار جديد في مسلسل لقاءات المصالحة لم يحظ باهتمام جدي من قبل الراي العام الفلسطيني، وحتى الذين اهتموا بهذا اللقاء انقسموا الى فئتين: الأولى مشفقة على الجزائر الشقيقة من خيبة الأمل لاعتقادها بأن هذا اللقاء سيفشل كما فشلت اللقاءات التي سبقته، لأسباب مزمنة يعرفها الجميع، وسيتسبب بحرج للجزائر العزيزة على قلب كل فلسطيني، والفئة الثانية التي تبنت موقفا ً ساخرا ً من أطراف المصالحة وعبرت عن أسفها لإضاعة الوقت واهدار المصادر المالية التي سيكلفها هذا اللقاء باعتباره، حسب رأيها، محطة استجمام في مسلسل لقاءات المصالحة التي تحولت الى أشبه ما تكون بالجولات السياحية.
ولا يميل المراقب الى توجيه أي لوم سواء لأولئك المتعاطفين مع الجزائر الخائفين عليها من الحرج والفشل أو أولئك الذين سخروا ويسخرون من أطراف الحوار والمصالحة. فهذا هو اللقاء العاشر في سلسلة تلك اللقاءات التي كانت مكة والقاهرة والدوحة وموسكو وبيروت والجزائر بعض محطاتها وكانت كلها عقيمة دون جدوى.
وفي رأيي المتواضع فإن موضوع المصالحة لم يعد موضوعا لأي نقاش عملي لأنه غير وارد في حسابات أي من فتح وحماس بعد أن تبلور واقع جديد على الأرض لا يستطيع أي منهما التحرر منه أو التخلي عنه سواء كتنظيمات أو كأفراد ذوي مصالح متنفذين في كلاهما ومستفيدين من هذا الوضع، بينما أصبح الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية رهينة في يد الحركتين.
وانطلاقا ً من هذا الفهم فإن أي توجه للتقريب بين الطرفين يجب أن يبحث عن بدايات جديدة ومنطلقات جديدة تنطلق من حيث يقف كل منهما اليوم وليس من حيث كانا معا قبل عقد ونصف من الزمن، آخذا بالاعتبار كل المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية.
فالذي يحدث على الأرض يثبت بأن الشرخ لم يعد بين فتح وحماس وانما أصبح بين الشعب من جهة وكلتا الحركتين مجتمعتين من جهة أخرى، إضافة الى أن هناك فجوة تتسع بين الناس والقيادات السياسية بشكل عام لأن بعضا ً من هذه القيادات لم تعد لها أية صلة مع القاعدة الشعبية ولا وجود في الميدان بل تقتات من أمجاد وتاريخ "نضالي" عفا عليه الزمن.
وعليه فإن أحدا ً يجب ألا يفاجأ اذا خبا وميض لقاء الجزائر تدريجيا ً رغم كل محاولات الإنعاش. فالذي يجري على الأرض هو أقوى وأكبر من كل لقاءات وبهلوانيات ذوي الياقات البيضاء والضحكات البلهاء.
وإذا لم ينجح حوار الجزائر في استقطاب الاهتمام فذلك لأن الحوار الحقيقي الذي استقطب اهتمام الناس ومتابعتهم هو حوار البنادق والأيدي والحجارة والاطارات المشتعلة الذي احتل مساحة واسعة من خريطة الوطن والذي بعث بأقوى الرسائل للطرف الآخر بأنه وبعد أكثر من نصف قرن ونصف عقد من الزمن فإن شعبنا لن يرضخ ولن يستسلم وأنه عازم دون كلل أو ملل على مواصلة نضاله من أجل انهاء الاحتلال والعيش بحرية وكرامة على ترابه الوطني.
رسالة الأيام والأسابيع الأخيرة هي رسالة متعددة الأبعاد، أول بعد ٍ لها هو سقوط ورقة الأطر والتنظيمات التقليدية التي آوت الى المقاعد الوثيرة واسترخت عليها واستحوذ عليها النعاس، والبعد الثاني هو علو ورقة الرفض للاحتلال ولكل مفرزاته والإصرار على مواصلة الطريق الكفاحي لنيل الحق، والبعد الثالث لهذه الرسالة هو أن معركتنا ومواجهتنا ليست مع الاحتلال العسكري الإسرائيلي فحسب وإنما هي أيضا ً مع مستوطنيه الذين هم جزء مكمل ٌ لهذا الاحتلال وخاصة الأجيال التي ولدت منهم فوق أرضنا المحتلة والتي تشبعت بثقافة العنف والإرهاب ضدنا واهمة بأن ذلك يمكن أن ينتزعنا منها ويلقي بنا في متاهات التغريب، والتي شاهدناها في شوارع حوارة قبل أيام وفي حي الشيخ جراح بالقدس أول من أمس والتي ستكون لنا معها صولات وجولات قادمة هي أشبه بالحرب الأهلية كما كان مع المستوطنين الفرنسيين بالجزائر، وهي التي ستحسم أمر المواجهة مع الاحتلال الى أن يرحل ومعه مستوطنوه تماما ً كما كان وكما صار في الجزائر. والبعد الرابع لهذه الرسالة، والتي كانت القدس جزءا ً أساسيا ً من قلبها النابض، هي أن هناك معطيات جديدة هي أشبه بمخاض ٍ جديد لجيل ٍ ووعي ٍ جديد، وأن هذا المخاض قادم من صلب الشرعية الشعبية وأن على من كانوا في يوم من الأيام حيث تقف براعم هذا المخاض أن تبادر للبحث عن القواسم المشتركة معهم وأن تحتضنهم لكيلا تضيع البوصلة أو يتشوش التفكير على أحد. فالهدف واحد وهو الحرية وانهاء الاحتلال، والوصول الى هذا الهدف يقتضي وحدة الصف والهدف ونبذ المحبطين والمشككين والمعوقين والذين تسرعوا في التهافت على التقاط فتات الغنائم واهمين أن المعركة قد انتهت، وما أحوجنا الى التلاحم بين حكمة وخبرة التجربة من جهة وهمة الشباب وعنفوانهم من الجهة الأخرى.
إن أحق الناس وأولاهم بالتقاط هذه الرسائل ووعيها جيدا ً هم أولئك الذين يتزاحمون في كل مرة على شبابيك تذاكر السفر الى جولات الحوار والذين لا يرون فيها إلا فرصا للاستجمام والتنزه، لعل بعضهم يُحسن التقاط الحكمة والعبرة.