ستكون قمة العشرين التي ستُعقد في بالي بأندونيسيا مناسبة لكشف عدد من العلاقات بين الدول المشاركة في القمة الدولية، ومدى تأثرها بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث بدأت حرب التصريحات تطلق منذ أسابيع، خاصة بين كل من واشنطن وموسكو، حول إن كانت هناك فرصة ما للقاء يجمع بين رئيسي الدولتين العظميين، هذا في الوقت الذي أكدت فيه موسكو وبكين مشاركة رئيسَي الدولتين في القمة، إضافة بالطبع إلى حديث واشنطن المتتابع الذي يتطرق إلى القمة، من على قاعدة مشاركة الرئيس جو بايدن فيها، وإذا كان من الطبيعي استبعاد لقاء يجمع بايدن مع بوتين، فإن الأمر المثير هو إعلان واشنطن وعلى لسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان من أن بايدن لن يلتقي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ما يلفت الانتباه للغاية هو أن إعلان سوليفان ذاك، جاء مستتبعاً قول الرجل بأن واشنطن بصدد إعادة تقييم علاقاتها مع السعودية، وذلك على أثر موقف السعودية المنسجم مع مصالحها وموقعها في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، والذي لم يعجب الولايات المتحدة، التي كانت تريد من المملكة العربية السعودية زيادة إنتاج النفط لتعويض النقص الناجم عن عدم استيراد الدول المستهلكة له، خاصة في أوروبا، للنفط الروسي، حيث بدا سوليفان غاضباً من السعودية ومتابعاً القول بأن بايدن سيعود إلى الكونغرس لتحديد مستقبل علاقة بلاده مع السعودية، ومهدداً بأن التغيير سيشمل الجانب الأمني.
أما الرئيس بايدن نفسه فقد عقب على موقف السعودية في أوبك، بالقول، بأن هناك تبعاتٍ ستنشأ بعد قرار «أوبك+» التي تقودها السعودية وتضم روسيا، الخاص بخفض إنتاج النفط، وهذا يعني بأن العلاقات بين البلدين والتي كانت على مدار عقود خاصة إبان الحرب الباردة، تعتبر خاصة جداً، حيث كانت الولايات المتحدة تعتبر السعودية واحدة من أهم حلفائها في الشرق الأوسط، لكن على ما يبدو فإن المعيار الرأسمالي الذي يقول بأنه ليست هنالك سياسات ثابتة، بل هناك مصالح ثابتة، يظهر أنه هو المعيار الذي تسير عليه الدول في عالم اليوم، وإذا كانت الولايات المتحدة قد اعتادت على التصرف في السياسة الدولية وفق معيار مصالحها، فعليها أن لا تستغرب حين يفعل الآخرون مثلها، ويهتمون بمصالحهم هم وليس بمصالحها هي.
لكن بتقديرنا ليس ذلك هو السبب الذي دفع السعودية للخروج «عن طوع» واشنطن، وهي كانت قد فعلت مثل هذا الأمر أكثر من مرة، حيث ما زالت الدنيا كلها تذكر موقف الملك الراحل فيصل، في حرب تشرين الأول عام 1973، حين أوقف إمداد الغرب بالنفط، رداً على موقف الغرب من الحرب العربية الإسرائيلية، أما السبب الأعمق أو الأبعد فيعود إلى أن العالم فعلاً يتغير اليوم، وواشنطن تدفع ثمن خطئها الاستراتيجي في التقدير، بمنحها الأولوية للصراع مع الإسلام السياسي بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث انشغلت خلال العقود الثلاثة التي تلت انهيار جدار برلين، بالحرب ضد القاعدة وداعش، وانشغلت في حروب مباشرة داخل العراق وأفغانستان، ومن ثم سورية، وتركت كلاً من روسيا لتتعافى من تبعات انهيار الاتحاد السوفياتي والتخلص من الطفيليات الاقتصادية والسياسية التي جاء بها بوريس يلتسين، وكذلك تركت الصين لتنمو اقتصادياً، حتى باتت تناطحها وتنافسها فعلاً في هذا الجانب، فيما تجاوزت روسيا محنتها الداخلية وعادت لتكون فاعلا دوليا منذ دخلت الحرب في سورية، وقبلها في كل من جورجيا والقرم.
أي أن كثيراً من الدول باتت تعيد حساباتها، وبدأت تفكر في عدم وضع «بيضها كله» في السلة الأميركية وحدها، ولم يقتصر الأمر على الصين وكوريا الشمالية وإيران، نيكاراغوا، كوبا وفنزويلا، وهي الدول التي تناصبها أميركا العداء وتفرض عليها العقوبات الاقتصادية، فهناك الهند التي استعاضت روسيا بها وبالصين عن إغلاق أبواب أوروبا أمام صادراتها من الغاز، وهي دولة مهمة جداً على الصعيد الكوني، كذلك تركيا التي حضرت قمة طشقند قبل أسابيع، وحتى إسرائيل نفسها، التي بدت منذ تولي يائير لابيد مقاليد الحكم، أقرب للموقف الأميركي المنحاز لأوكرانيا، ما زالت تتحفظ على اتخاذ موقف يتوافق مع الموقف الغربي تماماً، أو ما من شأنه أن يغضب أو أن يقطع علاقتها الخاصة مع روسيا.
ولعل زيارة رئيس دولة الإمارات، وهي دولة مهمة أيضا مع السعودية، نظراً لكونهما من أهم الدول المصدرة للنفط، إلى روسيا ذات مغزى، وتذهب هي أيضا في هذا الاتجاه، ولعل ملخص القول هو أن الحرب في أوكرانيا ميدانياً هي حرب عسكرية، ومن ثم سياسية، لكنها في حقيقة الأمر هي حرب كونية في الحقل الاقتصادي، ومحورها هو الطاقة وبالتحديد النفط والغاز، حيث تبدو أوروبا أكبر الخاسرين، فروسيا حصلت حتى الآن على ما أرادت، بعد أن ضمت جنوب وشرق أوكرانيا، ودمرت معظم بنيتها التحتية ومعظم مخزونها العسكري، وهي _أي روسيا_ من جهتها خرجت من أرض أوكرانيا ولم تعد دولة غازية، لذا فهي حتى ترد على تفجير جسر القرم وخط الغاز «ستريم» بقصف كييف والمدن الأوكرانية، لأنها تدرك بأن وجود جنودها كمحاربين على أرض غيرها، لن يحقق لها النصر، بل هو بمثابة الفخ الذي حاول الغرب جرها إليه.
هكذا فإن الحرب العالمية الثالثة الدائرة الآن هي حرب الطاقة، وفي هذا السياق جاء الضغط الأميركي لانجاز اتفاق الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لتسريع إنتاج الغاز من قبل البلدين، حتى يتم تصدير بعضه لأوروبا وإنجاح المسعى الأميركي باستغناء أوروبا عن الغاز الروسي، لكن تظاهرات باريس تدق جرس الإنذار، فحرب العالم الاقتصادية لن تتوقف قريباً، ومن يصمد فيها يكسبها في نهاية المطاف، وإذا ما تواصلت تظاهرات العواصم الأوروبية فإنها ستأتي بحكومات يسارية، ترفع راية الخروج عن طوع أميركا، أما توتر العلاقة الذي بات أمرا شبه مؤكد بين السعودية وأميركا، فإنه على الأغلب سيغلق الباب أمام المحاولة الأميركية لضم السعودية لاتفاقيات التطبيع، حيث اعتبر بايدن بأن نجاحه في إقناع السعودية بالسماح بمرور الطائرات المدنية الإسرائيلية في سمائها، أحد أهم إنجازاته خلال عامين مرّا على وجوده في البيت الأبيض. وفي هذا السياق نأمل أيضا بأن يؤدي ظهور عالم متعدد الأقطاب إلى إغلاق نوافذ التطبيع، بل والى تراجع الإمارات والمغرب عن حالة الاندفاع التي ظهرت عليها علاقتهما مع إسرائيل خلال العامين الماضيين، أما إسرائيل نفسها فإنها حين تتأكد من تراجع السيطرة الأميركية على العالم، فإنها ستضطر إلى التأقلم مع الشرق الأوسط، والتراجع عن سياسة فرض ما تريد بقوة الانحياز الأميركية لاحتلالها لأرض دولة فلسطين.