يوم عظيم للقدس، بهي بهيج، يوم مضيء للقانون الدولي، وللعدالة الدولية ومبادىء الحق والإنصاف، ونصربسيط لكنه هام للقضية الفلسطينية المقدسية، حين أعلنت وزيرة الخارجية الأسترالية في حكومة العمال الجديدة، عن إلغاء القبول والإعتراف الأسترالي بغربي القدس كعاصمة للكيان الإسرائيلي الذي اتخذته الحكومة القديمة في عام 2018 ، حيث تابعت ولحقت بدونالد ترامب في خطوته بالإعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل،.
لاحظوا معي أن وزيرة الخارجية الأسترالية رفضت الإعتراف بغربي القدس كعاصمة لإسرائيل، ومن باب أولى أنها ترفض الإعتراف بشرقي القدس كعاصمة لإسرائيل. وكذلك فهي ترفض الإعتراف بغرب القدس وشرقها مجتمعين كعاصمة للكيان الإسرائيلي. أي أنها ترفض كل أشكال الضم الإسرائيلي للقدس الفلسطينية.
هذا الموقف الإسترالي من حكومة العمال الجديدة إثر انتخاباتها الأخيرة، يستحق الثناء والمديح، لأنها عادت إلى الحظيرة الدولية الرافضة لضم القدس واعتبارها عاصمتها، فقد كانت استراليا طيلة الفترة السابقة ضمن المعسكر المناوىء للقضية الفلسطينية، والمنحاز بشكل كبير للغرب ولإسرائيل. بل كانت تتدخل كثيرا لحماية ودعم الموقف الإسرائيلي في المحافل الدولية السياسية والقانونية وكانت تصوت باستمرار لصالح الموقف الإسرائيلي. بل قدمت مذكرة توضيحية لمحكمة العدل الدولية منحازة لإسرائيل في قضية الجدار أمام محكمة العدل الدولية رغم عدم صلتها. لذلك لم يكن الموقف الحكومي الإسرائيلي عدائيا تجاههم، بقدر ما كان هادئا مطالبا بالتريث والإحتواء والشرح والتوضيح للموقف الأسترالي.
طبعا، بهذه المناسبة عادت الأبواق الإسرائيلية ونحن في ذروة الفترة الإنتخابية، لتكرر تلك الإسطوانة المشروخة المهترئة البالية، الزاعمة بأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل لأكثر من ثلاثة آلاف عام، والحرية الكاملة لكل دولة في اختيار عاصمتها، وغير مسموح التدخل في الشئون الداخلية لأية دولة. والمحزن أن تقارير لمحطات فضائية عربية ومنها الجزيرة في تعليقها العاجل على الخبر ألأسترالي، تخطىء عن قصد أو غير قصد،حينما أشارت إلى أن أكثر من 115 دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل لكنها لم تنقل سفارتها إليها، وهذا كلام مغلوط كليا ولم يحصل بالمرة، فهذه الدول لا تزيد عن تسع دول فقط لا غير. وغير معلوم مصدر أنبائهم وعليهم تحري الدقة.
على أية حال، يبدو أن الحكومة الإسرائيلية نسيت قرار التقسيم رقم 181 والذي لم يسقط رغم مرور أكثر من سبعة عقود ونصف على صدوره، والذي كان سبب وجودها، والذي كان أحد أجزائه إفراد وضع خاص للقدس بجزئيها الغربي والشرقي، وما زال يعتبر قانونيا التصور القانوني السليم لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. بل حدد هذا القرار والذي اصطلح على تسميته فيما بعد بالتدويل، أجزاء المدينة المقدسة بالإسم وهي على وجه التحديد: أبو ديس والعيزرية والطور والعيسوية وسلوان وصورباهر وأم طوبا ولفتا ودير ياسين وعين كارم والمالحة وشرفات وبيت صفافا ورامات راحيل وشعفاط بالإضافة لمدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. وتم تجاهل كل ذلك في عام 1949 حينما قررت حكومة بن غوريون اتخاذ القدس الغربية فقط دون الشرقية عاصمة لها وأقرت الكنيست ذلك القرار.
وإذا كانت قد نسيت الحكومة الإسرائيلية قرار التقسيم، فالأولى لها أن تتذكر تلك الحزمة من القرارات الأممية الصادرة من الجمعية العامة ومن مجلس الأمن بعد حرب 1967، والتي كان أبرزها قرار الجمعية العامة رقم 2253 وقرار مجلس ألأمن رقم 252 وليس قرار 242 وتوالت بعد ذلك القرارات. وقد أكدا على رفض الإستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، كما اعتبرا جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية التي قامت بها إسرائيل باطلة ولاغية ولا تغير من الوضع القانوني للقدس.
وحتى بعد قرارات دونالد ترامب الخرقاء بشأن القدس والإعتراف بها عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الإسرائيلية إليها، فقد اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بأغلبية ساحقة من 128 دولة ضد تسعة دول هامشية وامتناع خمسة وثلاثين دولة عن التصويت، ايدت فيه قراراتها السابقة في موضوع القدس حيث رفضت ولم تعترف بالإجراءات الإسرائيلية واعتبرتها باطلة ولاغية وعدم جواز اكتساب اراضي الغير بالقوة.
هذه القرارات الأممية مشكلتها أنها بدون مخالب وتقتصر على البعد والجزاء القانونيين، وإن لم يعترف بها نتنياهو أو لبيد أو غانتس، لكن العالم الغربي والشرقي والشمالي والجنوبي ما زال يعتمدها في العلاقات الدولية لأنها متفقة مع القانون الدولي رغم ظلمها جزئيا للفلسطينيين. من هنا لم تتفق هذه الدول وعلى رأسها الفاتيكان مع خطوة ترامب ولم تؤيدها من زمن طويل، رغم سيرها في فلك الولايات المتحدة الأمريكية. لكن قلة قليلة من الدول سارت في الركب الأمريكي مثل استراليا وجواتيمالا وهندوراس. لكن الحق يعلو ولا يعلى عليه بتراجع أستراليا 2022عن خطوتها عام 2018. ولعل بريطانيا ليز تراس، تتعلم الدرس وتتعظ مما جرى في أستراليا، ولا تنجرف وراء صهيونيتها الطاغية فمن يزرع الريح يجني العاصفة. وأن تعود الولايات المتحدة إلى رشدها وتعود عن خطوتها الضالة.
وإذا تركنا الشرعية الدولية جانبا، وفحصنا مقولة أن القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل منذ ثلاثة آلاف عام. فسنجد أنه على الأقل باعترافهم واعتراف كتابهم الصريح أن فلسطين كانت تحت الحكم العربي الإسلامي ألفا وأربعمائة عام ونيف لتثبت زيف هذا الإدعاء. ثم هل عرف الزمن الغابر مفهوم العاصمة بكل مقوماتها الحديثة الإدارية والتشريعية والوزارية حتى تكون القدس عاصمتهم الأبدية. وهل كانت القدس عاصمة دويلة " يهودا " أم عاصمة دويلة " السامرة " . وكم استمرت كل واحدة من هاتين الدويلتين إن صح وجودهما. وماذا حل بهذه العاصمة أيام السبي والنفي كما يقولون لألفي عام خلت. إذاً وجود العاصمة بالمفهوم المادي القانوني الإداري المركزي غير قائم ، والمتوفر المشاعر العاطفية ومجرد الأحاسيس التي لا تبني حقا ولا قانونا. وكأني بمشاعر المسلم العاطفية الدينية نحو مكة والمدينة يعطيني حقا سياديا عليها أو مشاعر المسيحي نحو القدس وبيت لحم يعطيه حقا سياديا عليهما.
أما مفهوم حرية الدولة في اختيار عاصمتها حيثما تريد على أراضيها، فمفهوم صحيح إذا تم على أراضي تلك الدولة، أما أن تقام على أراضي الغير، وبطرق السلب والنهب وتجاهل القرارات الدولية بشأنها، فهو غير جائز البتّة. واصدق وصف عليه أنه كلمة حق قصد بها باطل. لذلك أبقت الدول جميعا سفاراتها في تل أبيب طيلة سبعة عقود وما زالت، ورفضت الكنائس الشرقية والغربية هذا الموقف الإسرائيلي.
لم يخرج التدويل ولا التقسيم القدس من السيادة الفلسطينية، ولم توقف الهدنة ولا وقف إطلاق النار السيادة الفلسطينية، ولم يؤت العدوان ولا الغزو ولا الإحتلال ولا ضم الكنيست لها ثماره لأنها غير مشروعة ومحرمة، فالضم باطل ولاغٍ، وبقيت القدس مدينة عربية إسلامية ذات سيادة فلسطينية وعبق فلسطيني من يوم يبوس وسالم وعمر بن الخطاب وانتهاء ببني عثمان. وستبقى زهرة المدائن عاصمة فلسطين الأبدية.