تأبى موجة التصعيد في "يهودا" و"السامرة" الانطفاء، وتجسد حقيقة أن إسرائيل تسقط بالتدريج في فخ إستراتيجي. يزداد حجم التحديات الناشئة في الساحة الفلسطينية، ويقل عدد البدائل التي أمام إسرائيل، وتتراوح تلك التي تبقت – على الاقل حالياً – بين السيئة والأسوأ. تختلف موجة التصعيد الحالية بمزاياها وبطولها عن تلك التي نشبت وانطفأت، وعلى رأسها "انتفاضة السكاكين" التي وقعت بقوى متغيرة بين نهاية 2015 وبداية 2016. يعكس التصعيد الحالي مشاكل اساسية عديدة تجسد الصعوبة في مواصلة الحفاظ على الاستقرار النسبي الذي قام على مدى نحو عقد ونصف في "المناطق" من خلال الادوات المعروفة.
ميزتان اساسيتان هما الابرز للتصعيد الحالي، تنبعان أساساً من تيارات عميقة في الساحة الفلسطينية لكنها تؤثر مباشرة على إسرائيل. الاولى هي رفع رأس الجيل الفلسطيني الشاب، ذاك الذي أسس رفاقه شبكات "الارهاب" مثل "عرين الأسود" في نابلس او "عش الدبابير" في "المناطق". جيل الفلسطيني بعد العام 2000 ووعيه لم تكوه صدمات الماضي التي لجمت آباءه. وهو ينفر من كل صلة بالجهات الفلسطينية "المؤطرة" وعلى رأسها السلطة، ويوجد في مجال الشبكة، ويدفع قدماً بأعمال عسكرية تعتمد على أساس أيديولوجي متهالك جداً "شعاري" في معظمه.
الميزة الثانية هي الضعف الوظيفي والفكري المتزايد للسلطة الفلسطينية بقيادة أبو مازن. ينبع هذا الضعف في قسمه الصغير من عدم التقدم في المسيرة السياسية او من غياب حوافز اقتصادية وبقدر أكبر من مزايا الحكم في رام الله.
ينطوي التوتر المتواصل في "المناطق" على إمكانية كامنة لتطور تهديدات استراتيجية من ناحية إسرائيل وعلى رأسها "نسخ" نماذج نابلس وجنين الى مواقع أخرى، بشكل يضعضع المكانة المتهالكة أصلاً للسلطة، ويلزم إسرائيل بالدخول الى فراغات حكومية تنشأ لاجل القضاء فيها على تهديدات امنية. لكن لاحقاً يمكن للانجذاب ان يتسع لدرجة إدارة شؤون مدنية مثلما كان حتى 1994. تهديد آخر يحدق من جهة "حماس"، التي تضرب عينيها كل الوقت للاستيلاء على قيادة الساحة الفلسطينية، وترى في "اليوم التالي" لابو مازن فرصة جيدة لهذا الغرض، ضمن أمور أخرى، من خلال الدفع قدما بالمصالحة الداخلية وبالانتخابات العامة.
في ضوء هذا الواقع توجد إسرائيل في انكسار استراتيجي. من جهة يفهم الكثيرون فيها الخطر الكامن في التدهور المتواصل الى واقع الدولة الواحدة – سيناريو تتعزز احتمالات تحققه كلما ضعف الحكم الفلسطيني وتعاظمت الصلة المدنية والاقتصادية بين إسرائيل و"المناطق". من الجهة الأخرى، فان كثيرين في إسرائيل بل ربما معظم الجمهور يعارضون رؤيا الدولتين التي احتمالية تحققها عملياً متدنية على أي حال، ضمن أمور أخرى، في ضوء الانقسام العميق في الساحة الفلسطينية التي في افضل الأحوال قد تسمح "بثلاث دول للشعبين". الأفكار المرحلية التي تعتمد عليها إسرائيل في السياق الفلسطيني في العقدين الأخيرين وأتاحت ظاهراً تجميد الوضع دون اتخاذ حسم استراتيجي، تبدو من خلال التصعيد الحالي انها ذات مدى محدود. إدارة النزاع، السلام الاقتصادي، مثلما هي أيضا فكرة تقليص النزاع، كان يفترض بها أن توفر الهدوء على مدى الزمن في ظل تجاوز المشاكل الأساس. اما عملياً، فان كل مشاكل الماضي التي تتطلب حلاً تبرز وعلى رأسها خطر الاندماج المتواصل بين الجماعتين السكانيتين.
ثمة من يصدون مثل هذا التحليل بجملة من التعليلات: انه يوجد منذ الآن ظاهراً فصل بين إسرائيل والفلسطينيين (حجة صحيحة بالنسبة لغزة لكنها تتبدد في سياق الضفة)؛ ولا يوجد أي إلحاح لاتخاذ الحسم، وبالتأكيد ليس ذاك المتعلق بالجوانب الإقليمية؛ وان الزمن على أي حال يلعب في صالح اليهود الذين ازداد وزنهم الديمغرافي بشكل سيكبح الآن وسيكبح في المستقبل أيضاً المساواة العددية بين الجماعتين السكانيتين.
بعد 49 سنة من حرب "يوم الغفران" من الصواب ان نتذكر بأن احدى المشاكل الأساس في الجانب الإسرائيلي – الى جانب الاستخفاف بالعرب وغياب فهم ثقافتهم – كانت الفرضية بشأن انعدام الدافع لاتخاذ الحسم والايمان بقوة الوضع الراهن. مثلما في 1973 وبعد ذلك في اعقاب الانتفاضة الأولى والثانية، ستصل إسرائيل في النهاية الى حسم استراتيجي. لكن من مواقع غير مرغوب فيها من المفاجأة، رد الفعل والدونية – وليس انطلاقا من المبادرة.
نقاش وجودي
ما يجري في الجانب الفلسطيني يعمق كما أسلفنا التشاؤم بالنسبة للمستقبل. يتخذ أبو مازن أكثر فأكثر صورة الزعيم الذي لا يمكنه أن يحدث اختراقا تاريخيا للتسوية، والمستقبل بعده مفعم بالغموض منذ الآن وفي مركزه سلسلة زعماء شاحبين وليسوا محبوبين في معظمهم، ومن المشكوك فيه أن يرغبوا أو يكون بوسعهم الدفع قدما بحسم لم يتخذه جيل المؤسسين الفلسطينيين، وقسم كبير من الفلسطينيين يبدي يأساً منذ الآن من الواقع ومن قيادته ويظهر تعاطفاً مع فكرة الدولة الواحدة "التي يمكنها زعماً أن تمنحه رفاهاً اقتصادياً في المدى القصير وربما في المدى البعيد.
كبديل لمنطق السلطة تقف "حماس"، التي تحتاج شحنة كبيرة من التفاؤل والقناعة الذاتية لأجل الايمان بأن عبء الحكم يخفف بشكل ارتقائي حماستها الأيديولوجية التي في مركزها إقامة دولة على كل ارض فلسطين التاريخية في ظل إبادة إسرائيل.
يدور الحديث، إذاً، عن وقفة حيال جملة هزيلة من البدائل السيئة حين تدق من فوقها كل الوقت ساعة التاريخ. في هذا السياق من الصواب النظر الى البديل القديم لخطوة من طرف واحد، اتخذتها غير قليل من المرات الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، في الغالب بعد اليأس من القدرة على بلورة الواقع في ظل التعاون مع الطرف العربي. لقد صاغ آرثور روفين بشكل أليم الفكرة بكلمات: "ما يمكننا ان نحصل عليه من العرب ليس مطلوباً لنا، وما هو مطلوب لنا لا يمكننا ان نحصل عليه".
يتطلب الجدال الإسرائيلي الداخلي، إذاً، إنعاشاً وتحديثاً. الجدال المتناكف بين مؤيدي رؤيا الدولتين وأولئك الساعين لمنعه بوساطة تقليص النزاع، فما بالك ضم الضفة، هو جدال عدمي بقدر كبير؟ اما الجدال الحقيقي الذي يجب ان يدار فهو بين أولئك الساعين لأن ينصبوا – بشكل واع وعديم الأوهام - فاصلاً مادياً بين الجماعتين السكانيتين، وبين أولئك الذين يؤمنون بالقدرة على مواصلة الإبقاء على الوضع الحالي او حتى تطوير كيان مشترك، رؤيا تؤيدها محافل متطرفة في اليمين وفي اليسار، فيما ينغرس في وعي كل واحد منها فكر متضارب حول طبيعة تلك الدولة ومن سيحكمها.
ان مجرد طرح فكرة أحادية الجانب يجر تلقائياً هجوماً شديد القوة: سواء من جانب أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بالقدرة على التوصل الى تسوية متفق عليها بين الشعبين، سواء من جانب طارحي ذاكرة الصدمة لفك الارتباط والتهديدات الأمنية التي خلقها، أم من جانب الذين يرفضون رفضاً باتاً تغييرات إقليمية في نطاق "بلاد إسرائيل التاريخية" او يحذرون (وعن حق) من شرخ داخلي شديد قد ينشأ في المجتمع اليهودي في اعقاب خطوات كهذه.
من المحظور الاستخفاف بتلك الحجج ثقيلة الوزن، لكن من المحظور أيضا ان تُسكت هذه التفكير النقدي والحاجة الى النظر مباشرة الى الواقع وتخيل المستقبل وبخاصة ذاك الذي ينعدم فيه الخط الفاصل بين الجماعتين السكانيتين. فاصل كهذا لا يعني بالضرورة دولة مستقلة، بل ربما حكم ذاتي ذو حدود مثلما اعتقد في الماضي ألون ورابين. خطاب إسرائيلي داخلي عن الفاصل سيكون بالتأكيد عاصفاً، والمستقبل الكامن فيه ليس مثالياً: من المعقول أن تتواصل التهديدات من جهة الساحة الفلسطينية وسيكون ثمة تعلق اقتصادي بذاك الكيان بإسرائيل؛ ليس سهلاً، اذا كان ممكناً أصلاً، أن يوجد شريك فلسطيني، وسيتعين على إسرائيل ان تحافظ على ذخائر امنية (وبخاصة التواجد في الغور).
ولا يزال واقع كهذا افضل من السير نحو مستقبل من شأنه أن يكون مليئاً بتهديدات داخلية وخارجية خطيرة اكثر بكثير. هذا نقاش وجودي من الضروري للحكومة المستقبلية – اذا ما وعندما تقوم – ان تضعه على رأس جدول اعمالها، وجدير بأن يطالبها الجمهور في إسرائيل بذلك.
عن "معاريف"
