من يزرع الظلم يحصد الثورة

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

وكالة خبر

 

 

ما تعيشه فلسطين ليس مجرد تكرار لأحداث سبق أن جرت، وليس مجرد انتشار لأنماط مقاومة من منطقة إلى أخرى، بل هي حالة تحول نوعي عميق في الوعي الشعبي، وفي أنماط التوازنات الاجتماعية، والتغير الحاد في سلوك الأجيال.


معظم سكان فلسطين اليوم، لم يكونوا قد ولدوا بعد، أو كانوا في سن الطفولة عندما عقد إتفاق أوسلو وأُنشأت السلطة الفلسطينية.


ومعظمهم لم يعودوا يعتمدون في عملهم على التوظيف في أجهزة السلطة الفلسطينية.


وبعد مرحلة الانتفاضة الثانية، عادت أعداد العمال المضطرين للعمل في إسرائيل، أو مستوطناتها الاستعمارية للإرتفاع حتى بلغت 220 ألف عامل، ونشأ قطاع خاص، إستهلاكي في الأساس، ولكنه يشغل عشرات الآلاف.


وبالتوازي مع هذه العمليات، تواصل إرتفاع أعداد المستعمرين المستوطنين في الضفة الغربية حتى وصلت إلى 750 ألفاً، وتعمق تقطيع أوصال الأراضي المحتلة، بالحواجز والجدران، والمستعمرات وطرق الفصل العنصري.


وما يصطدم به الشباب الفلسطيني في حياتهم اليومية، يمكن تلخيصه لأغراض التحليل، في أربعة أمور:-


أولاً -قمع وإهانات متكررة، وحواجز لا ترحم، ومعابر يقضي على مداخلها الفلسطينيون ساعات طويلة من المعاناة، وحصار يحول مناطق بكاملها إلى سجون كبيرة، كما هو الحال في قطاع غزة. ولا يعني الإرتفاع النسبي للأجور مقابل الاستغلال الإسرائيلي للعمال الكثير، حيث يقضي العامل ما معدله 4 ساعات يومياً لعبور الحواجز والوصول إلى أماكن العمل، أو العودة منها.


ثانياً -إنسداد آفاق المستقبل بالنسبة للغالبية الساحقة من جيل الشباب، بما في ذلك فرص التعليم المنتج، وبشكل أكبر فرص العمل بعد التخرج، وقلة فرص التطور الشخصي والمهني، في طل ارتفاع حاد لتكاليف الحياة.


ثالثاُ -الإنغلاق التام لآفاق الحل السياسي لمعضلة الإحتلال المستمر منذ ستة عقود، ونظام الأبرتهايد والاضطهاد العنصري الذي صار يتغلغل في كل مناحي الحياة.


رابعاً -البطش الإسرائيلي اليومي بحياة الفلسطينيين، سواء على أيدي جنود الإحتلال، أو من قبل المستوطنين المستعمرين. بحيث صار شبح الموت دون سبب، يهيمن على حياة الشباب الفلسطينيين، ويدفع بهم إلى المخاطرة بحياة لا يضمنون سلامتها، حتى لو اتبعوا كل وسائل الحيطة والحذر.


وإذا كان الاحتلال قد كرس منظومات اضطهاد محددة للفلسطينيين، حاول تخفيف آثار بعضها عبر إتفاق أوسلو، ومن خلال السماح بنشوء السلطة الفلسطينية، فإن منظومة الأبارتهايد العنصرية التي تطورت في رحم الاحتلال، وفي بيئة الفلسفة العنصرية الصهيونية المهيمنة، لا تترك للفلسطيني أي مجال للحياة، أو العمل، أو التعبد و العيش دون مواجهة الشعور العميق بالتمييز العنصري، والمس المهين بالكرامة.

وخصوصية الاحتلال والاضطهاد العنصري الإسرائيلي تكمن في أنه، بالإختلاف عن منظومات إستعمارية أخرى، لا يتوقف عن التمدد والتوسع، وعن إلتهام أرض، ومياه، ومصادر رزق الفلسطينيين من خلال التوسع الاستيطاني الكولونيالي.


أي أن منظومة الاضطهاد والتمييز تتعاظم منهجياً ولا تتوقف عن تعميق الشعور بالظلم والاضطهاد الذي يعاني منه الفلسطينيون، و تؤكد أن هدف إسرائيل الحقيقي هو تكرار نكبة عام 1948 في الضفة الغربية، وفرض الضم و التهويد الكامل عليها.


وتزيد القيود والضغوط التي تفرضها إسرائيل على السلطة الفلسطينية وخاصة من خلال إجبارها على ممارسة التنسيق الأمني مع الاحتلال الذي يضطهد شعبها، الطين بلة وتعمق شعوراً داخلياً لدى الشباب بالرغبة في التمرد ليس فقط على الاحتلال، بل وعلى منظومة التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية نفسها العاجزة عن حمايته من بطش وظلم الاحتلال، أو من منظومة الفساد الناجمة عن أنماط الواسطة والمحسوبية والتمييز في الفرص والامتيازات.


وتتراكم كل هذه الأمور على أرضية الفشل المطلق للمراهنات على عملية سلام وتسوية مع إسرائيل والاحتلال الكولونيالي الذي تمارسه، بما في ذلك الفشل الكامل لإتفاق أوسلو ونهجه، وفي ظل تغيرات إقليمية شتت بلداناً وشعوباً بكاملها، بفعل تدخلات استعمارية خارجية، أكدت الشعور بأن من لا يملك القوة، ومن لا يستطيع إستخدامها، سيضيع ويُدمر بتأثير بطش الآخرين.


وذلك كله يقود إلى استنتاج واحد أن إسرائيل لا تفهم ولن تفهم إلا لغة القوة، وأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". سواء كانت هذه القوة عملاً مسلحاً، أو تمرداً جماهيرياً، أو مقاومة شعبية، أو انتفاضة شعبية شاملة،أو فعلاً فردياً أياً كان شكله.


لا يستطيع الفلسطينيون، ولن يستطيعوا إحتمال الظلم المتصاعد الذي يتعرضون له، ولا يوجد أي بصيص أمل أمامهم بأن العالم الذي يتشدق بالخطابات عن الحرية والديمقراطية والقانون الدولي، سينتبه إلى معاناتهم، أو يغادر مستنقع المعايير المزدوجة، عندما يتعلق الأمر بفلسطين، أو يتوقف عن منح الحصانة لإسرائيل من المحاسبة على الجرائم التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني.


ولذلك فإن الفلسطينيين يثورون، ويشعلون إنتفاضة شعبية جديدة، من دون أن ينتظروا توجيهاً تنظيمياً من أحد، أويعبأوا برأي قوى همشت نفسها بالابتعاد عن ساحات النضال، أو تورطت عناصرها في ممارسات سلطوية ضد أبناء شعبها الذين يعيشون معهم تحت الاحتلال نفسه.


ومهما زادت إسرائيل عدد القوات التي تزجها لقمع الفلسطينيين، وخاصة في نابلس و جنين و ضواحي القدس الثائرة، ومهما تفننت في إستخدام أساليب التجسس وتكنولوجياته، ومهما زادت من حجم الاعتقالات التي تنفذها، فانها لن تزيد الأمور إلا تفاقماً، ولن تزيد الشباب إلا إصراراً على الانخراط في أوجه التمرد والنضال الشعبي.


ولن يقدم إستخدام قوة القمع العسكرية أي حل، لمشكلة مضمونها سياسي عميق، لأن المرض لا يشفى بمداواة أعراضه، بل بعلاج أسبابه، وهي في هذه الحالة الاحتلال و التطهير العرقي ونظام الأبارتهايد والتمييز العنصري.


ولو كان لدى قادة الاحتلال القدرة الموضوعية على الفهم، لتعمقوا على الأقل في دراسة تجربة بلد كالجزائر، حكمه الاستعمار 132 عاماً، وحاول تشويه لغته، واستولى على ثرواته وزرع في أرضه أكثر من مليون مستوطن، وقتل من أبنائه مليونا ونصف مليون شهيد، ثم اضطر، تحت ضغط مقاومته أن يهرب جاراً معه مستوطنيه، وذيول خيبة ما زال يجرجرها حتى اليوم.


من يزرع الظلم يحصد الثورة، ذلك هو القانون الأزلي منذ قامت الخليقة.