دلالات الظاهرة المسلحة.. وأزمة القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية

ac1704d7-3eb9-4a14-82af-898c419a13ce-1-1-1-1-1-1-2-1-1.jpeg
حجم الخط

بقلم جمال زقوت

 

 

 لا شك أن عودة مشهد الصراع لظاهرة المقاومة المسلحة، إنما يعكس بصورة عميقة مدى فشل مشروع التسوية الذي راهنت عليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وألقت في رهانها هذا كل تاريخ وإنجازات الثورة الفلسطينية، بما في ذلك إنجازات انتفاضة الشعب الفلسطيني الكبرى عام 1987. كما أن اتسام هذه الظاهرة بطابعها الفوق فصائلي، إنما يظهر مدى انفضاض هؤلاء المقاومين عن مكونات الحركة الوطنية سيما قطبي المشهد الانقسامي، بما ألحقه صراعهما على "الشرعية المغيبة". فبقدر استحواذ كل منهما على سلطة منفردة تشكلان وجهي عملة واحدة لأزمة الحركة الوطنية العالقة بين فكي حالة الانقسام ، والفشل الاستراتيجي لمشروعيهما بسبب افتراقهما عن الإرادة الشعبية ومتطلبات المشاركة السياسية، كما تراها الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، بما في ذلك حق الناس في الاختيار الحر لقيادتها، وبما يعزز الوحدة الوطنية بطابعها الشعبي، وليس بؤس ظاهرتي التفرد والاقصاء اللتين طغيتا على المشهد العام، باعتبار أن عنوان وطبيعة المرحلة لم تغادر بعد ومنذ نشأة السلطة الوطنية مرحلة التحرر الوطني، رغم ما أحدثته تلك النشأة من مسؤوليات تداخلت خلالها عملية التحرر الوطني مع متطلبات البناء الديمقراطي، وفي مقدمتها بناء مؤسسة وطنية كفؤة وقادرة على تقديم أفضل الخدمات التي تعزز صمود الشعب الفلسطيني وهو يخوض معمعان عملية التحرر الوطني للظفر بالحرية والاستقلال، ذلك باعتبار أن المواطن ومكانته وحقوقه بالمواطنة هو الرأسمال الأكبر والأهم لإنجاز تلك المهمات المتداخلة.

من الواضح تماما، أن كلاً من السلطة الفلسطينية في الضفة، وسلطة حماس في القطاع، يقفان على مسافة تكاد تكون متساوية من هذه الظاهرة التي في أحد أبعادها تقدم جواباً نقيضاً لمواقفهما وحالة الفشل التي يعانيان منها، بما في ذلك استمرار الرهان على العلاقة مع إسرائيل سواء تلك المتعلقة بالتنسيق الأمني في الضفة الغربية، أو حرص حماس الشديد على الالتزام بقواعد التهدئة مقابل تسهيلات اقتصادية تضمن بقاءها في قطاع غزة، وإمكانية السماح لها بالتمدد نحو الضفة الغربية، فكلاهما ما يزال يدور في فلك هذه الدائرة الجهنمية التي تشكل جوهر استراتيجية السياسة الإسرائيلية لمختلف أطراف النظام السياسي في إسرائيل، والتي تلتقي جميعها على استبعاد أي تسوية سياسية مع الفلسطينيين، وهي الاستراتيجية التي تشكل جوهر الأزمة السياسية الراهنة وبعيدة المدى للمشروع الصهيوني برمته.

فشل أوسلو وانقلاب إسرائيل على التسوية

منذ اقتحام شارون لباحات المسجد الأقصى والتي فجرت الانتفاضة الثانية، كتعبير عن فشل مسار أوسلو، وانقلاب إسرائيل الكامل على هذا المسار، رغم ضبابيته، بالعودة إلى خطة مناحيم بيچن للحكم الذاتي المقلّص، ومضمون مشروع ألون للتسوية الإقليمية في الضفة الغربية، وارتهان القيادة الفلسطينية لإمكانية العودة للمفاوضات، أو اعتقاد حماس بأن سيطرتها على قطاع غزة واعتماد ما يمكن تسميته بقدرتها على الردع بامتلاكها "ترسانة صاروخية" كوجه آخر لذات العملة التي تقصي الإرادة والمشاركة الشعبية، وأزمة الحركة الوطنية تتعمق يوماً بعد آخر، وتتسع معها فجوة الفراغ بين مكونات هذه الحركة و مختلف الفئات الشعبية سيما الشابة منها . فبدون أن تحزم كل من السلطة الوطنية و سلطة حماس أمرهما بالخروج العقلاني من دائرة استمرار الانفراد العبثي بالمصير الوطني، والانخراط المباشر وغير المباشر في لعبة هندسة تشكيل "قيادة" بعيدة عن متطلبات الوحدة الوطنية عبر مؤسسات وطنية جامعة، ومن خلال صناديق الاقتراع، فسيظل كل منهما عالقًا في المربع الذي ترسمه حكومة الاحتلال لمزيد من تفكيك الحركة الوطنية، وتسهيل الاستفراد بالمتحكمين بالقرار الوطني في محاولة اخضاعهم.

صحيح أن ظاهرة المقاومة الراهنة تحصد يومياً المزيد من الدعم والحاضنة الشعبية، والتي يتسع نطاقها كلما أوغلت حكومة الاحتلال في الدم الفلسطيني، إلا أن الرسالة الأساسية التي تحملها هذه الظاهرة، وبغض النظر عن مدى قدرتها على الاستمرار أو قدرة إسرائيل على وقفها، هي أن إرادة الشعب الفلسطيني ورفضه الخضوع لمخططات التصفية الإسرائيلية قادرة أن تتجدد و بأشكال مختلفة، وقد شهد الصراع ضد الاحتلال موجات مختلفة ومتشابهة، سواء بظاهرة المطاردين العلنية في قطاع غزة منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وحتى اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى في النصف الثاني من الثمانينيات، وما بينهما وما تلاهما من هبات وموجات انتفاضية متتالية.

أزمة المشروع الصهيوني

إن جوهر أزمة إسرائيل ومشروعها الصهيوني يتمثل في غطرسة فائض القوة، وتوهم نظامها السياسي بإمكانية كي وعي الشعب الفلسطيني لفرض الاستسلام عليه، وتنافس مختلف الأحزاب الصهيونية على كيفية منع الشعب الفلسطيني من بناء دولته المستقلة كمكون أساسي لممارسة حقه في تقرير مصيره. إن مثل هذه الاستراتيجية التي تمارسها حكومات إسرائيل المتعاقبة لن تفضي سوى لمزيد من المقاومة، وربما لاندفاع الصراع ليس فقط نحو تفكيك وإنهاء الاحتلال العسكرى والاستيطاني، بل والكفاح المشترك لهزيمة الطابع العنصري للمشروع الصهيوني، وممارسة حق تقرير المصير للشعبين في إطار دولة ديمقراطية واحدة. من الواضح أن معالجة أزمة الفكر الصهيوني تندفع بفعل طابعها العنصرى وغطرسة فائض القوة الاحتلالية نحو الخيار الثاني .

متطلبات التغيير الوطني والديمقراطي

كما أن الرسالة الثانية التي توجهها ظاهرة المقاومة المسلحة للحركة الوطنية الفلسطينية بأنه آن أوان التغيير في بنية واستراتيجيات عمل الحركة الوطنية، وحتى لا يظل الشعب الفلسطيني أسير لمحاولات إخضاعه للعبة "هندسة قيادته" أو احتراب أطرافها، فإن ذلك يستدعي وحدة إرادة الفلسطينين وحماية مصالحهم وأهدافهم الوطنية، من أجل تغيير ديمقراطي يعيد بناء وحدتهم في إطار حركة وطنية جامعة ومؤسسات تمثيلية واحدة، والسؤال من هي القوى الاجتماعية المؤهلة للقيام بهذه المهمة الكبرى وكيف؟