بشارات الانتفاضة الثالثة

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

لا يجب لأحد يهتم بالسياسة المرتبطة بالصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أن ينسى ولو للحظة، تأثيرات حدة أو مستوى ذلك الصراع على الوضع الداخلي لكليهما، ورغم أن إسرائيل بقوتها العسكرية وبفضل تغطية حليفها الاستراتيجي الأميركي لها، ما زالت تحتفظ باحتلالها لأرض دولة فلسطين، لكن مع ذلك فإن الكفاح الفلسطيني فرض عليها التراجع والانكفاء أكثر من مرة، وهذا يعني بأنه رغم أن درب الكفاح من أجل التحرر شاق وطويل، إلا انه ينتهي بالنصر لا محالة، وقد فرض الكفاح الفلسطيني على إسرائيل، بعد الانتفاضة الأولى التحول الداخلي عبر انتخابات العام 1991، التي انتهت بفوز اليسار لآخر مرة، ونجاحه بتشكيل الحكومة، وإن مع شبكة أمان لنواب الكنيست العرب الخمسة في ذلك الوقت، الذين كان عددهم كافياً، لتشكيل حكومة أغلبية ضيقة بتحالف حزب العمل الذي حاز على 44 مقعداً وحزب ميرتس الذي كان لديه 12 نائباً.
تلك الحكومة التي رأسها اسحق رابين وقعت اتفاق أوسلو، الذي اعترفت بموجبه إسرائيل أولاً بـ (م ت ف) كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وثانياً بحق الشعب الفلسطيني في كيان سياسي خاص به، بل إنها وقعت على اتفاق إعلان مبادئ يشمل إضافة للمرحلة الأولى الانتقالية، التي كان أهم تطبيقاتها  إقامة أول سلطة فلسطينية على الأرض الفلسطينية_ الاعتراف بأن كل الأرض المحتلة منذ عام 67 هي محل تفاوض، وأن الحل النهائي ينتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وكان كل ذلك بالطبع نتيجة مباشرة للكفاح الشعبي الذي انطلق عبر انتفاضة العام 1987، رغم أنها جاءت عشية التحول العالمي ومن ثم الإقليمي غير الإيجابي على الجانب الفلسطيني، نقصد تفكك المنظومة الشيوعية العالمية.  
لم يجد اليمين الإسرائيلي إزاء ما حققه الشعب الفلسطيني من انجاز بعد كفاحه الشعبي، إلا العنف ليضع حداً لمسيرة الحل السياسي القائم على أساس الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على أرض دولته المحتلة عام 1987، فأقدم أحد عناصره على اغتيال رابين في تشرين الثاني 1995، أي بعد عام ونيف من توقيع اتفاق أوسلو، وفتح بذلك الطريق لعودة الليكود إلى الحكم، حيث ظلت العملية السياسية تراوح مكانها، خاصة بعد اتفاق واي ريفر الذي أسقط بدوره بنيامين نتنياهو من الحكم، بعد أول ولاية له فيها، لكنه جاء بالصقري ايهود باراك خلفاً له، وهو الوحيد من حزب العمل الذي كان قد صوت ضد اتفاقيات أوسلو، والذي أغلق الباب أمام مفاوضات الحل النهائي، وفتح الباب لانتفاضة العام 2000، التي أسقطته بدورها، لكنها أبقت على مفاوضات الحل النهائي قائمة، وإن كانت قد فشلت في التوصل للحل.  
من الواضح بأن الحسابات السياسية الإسرائيلية قد اعتمدت إدارة الصراع عبر تفاوض عبثي مهمته تخدير السلطة في الضفة الغربية، وكذلك عبر إحداث الانقسام الفلسطيني الداخلي، والمساعدة على تنصيب حماس في غزة، والإبقاء على السلطة في الضفة، السلطة لنزعتها السلمية، وحماس بنزعتها التي تميل إلى العنف، أي كل منهما في المكان الخطأ، حيث الضفة تحتاج للمقاومة، وغزة تتطلب الأعمار، وبعد أن وصل الأمر إلى آخر مدى، بدأت إسرائيل تكشر عن أنيابها، وبعد فترات حكم يمينية متواصلة، أغلقت باب التفاوض منذ عام 2014، ثم قطعت كل أمل بالحل، حتى بدأت تظهر إرهاصات المقاومة في القدس والضفة الغربية، بعد أن اتضح بأن إسرائيل اليمينية المتطرفة تسعى لتهويد القدس وهدم الأقصى لإقامة الهيكل، وكذلك منع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية.  
وبشكل متصاعد من عمليات الطعن، إلى عمليات الدهس، إلى الرباط في القدس، ثم إلى مواجهة المستوطنين بالمقاومة على طريقة غزة، أي الإرباك الليلي وإحراق الكاوتشوك، والعودة لإلقاء الحجارة، وما إلى ذلك، وأخيراً إلى مواجهة اقتحام المدن الفلسطينية بالسلاح الناري، سرعان ما تحولت أمواج الضفة الغربية إلى بحر هائج، ها هو يغرق التطرف اليميني الإسرائيلي في بحر كراهيته وعنفه، فرغم عدد الضحايا وعمليات البطش العسكرية للجيش الإسرائيلي، إلا أن المقاومين قد تجاوزوا الانقسام ميدانياً عبر مجموعة عرين الأسود، كذلك هب الشبان الذين ولدوا بعد أوسلو، والذين هم ينتمون إلى فلسطين فقط، أي دون واسطة التنظيم الوطني أو الإسلامي، إلى امتشاق السلاح، حتى لو كان عبارة عن سكين أو بندقية محلية الصنع، وها هم ينجحون في إصابة كبرياء جيش الاحتلال المدجج بكل أدوات القتل في مقتل.
إن انتفاضة الضفة الفلسطينية الثالثة، حتى وهي في بواكيرها، بدأت تلقي بتأثيراتها على الوضع الداخلي الإسرائيلي، الذي لم يعرف سوى التنكر للحقوق الوطنية والشعبية الفلسطينية منذ نحو عقد ونصف، وبشكل صريح وصفيق، فتصريح يائير لابيد في الأمم المتحدة الشهر الماضي، ورغم أنه جاء كلاماً في الهواء، ولامتصاص ردود الفعل الدولية على خطاب الرئيس محمود عباس، وعلى كيل أميركا في فلسطين بمكيال مختلف عن ذلك الذي تستخدمه في أوكرانيا، إلا أن الأمر لم يتوقف عند تلك الحدود، فها هو بيني غانتس الرجل الثالث من بين الطامحين برئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد انتخابات الكنيست التي ستجري الأسبوع القادم، يعلن عن موافقة هي الأولى من نوعها خلال عقدين، والمتمثلة بالسماح للسلطة بشراء مروحيتين.
والأهم هو صوت اليسار الذي انطلقت عقيرته أخيراً، حيث بدأت زهافا جلئون زعيمة حزب ميرتس حملة الحزب الانتخابية بالقول بأن استئناف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني سيكون ضمن مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، وهذا يعني بأن إسرائيل ستكون أمام ثلاث كتل برلمانية وليس كتلتين وحسب، وسيكون لابيد أمام خيار تشكيل حكومة وسط_يسار، دون أحزاب اليمين، التي كانت متحالفة معه في الحكومة الحالية، والتي لن تعود لنتنياهو، بل ستشكل مع غانتس تكتلاً ثالثاً بين الكتلتين التقليديتين، وأن إسرائيل بذلك بعد أن كانت بين كتلتي يمين، ويمين الوسط، ستكون بين ثلاث كتل، يمثل ظهور اليسار فيها ارتقاء بميزان القوة السياسية عما كان عليه طوال أعوام مضت. والمهم في كل تلك التصريحات أنها تجيء عشية الانتخابات، بما يعني بأن أصوات ناخبي اليسار والعرب باتت مهمة، بعد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، والدليل أن استطلاعات الرأي التي كانت ترجح كفة معسكر نتنياهو لحظة الإعلان عن الانتخابات المبكرة، لم تعد كذلك، بل هي ترجح التعادل بين المعسكرين.
 وهذا يعني أنه بقدر ما تعيد الانتفاضة الثالثة الأمل بحرية قريبة لفلسطين، بقدر ما تضع حداً لسطوة اليمين الإسرائيلي، بحيث يمكن القول، بأنها في نهاية المطاف ستكون سبباً في ظهور شريك سلام إسرائيلي، بعد أن غاب هذا الشريك كل تلك السنين العجاف.