تعاني القارة الأوروبية وخاصة دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من أزمات اقتصادية خانقة بسبب الحرب الأوكرانية- الروسية وقرار فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا بهدف تدمير الاقتصاد الروسي ودفع روسيا لوقف الحرب وللانسحاب من أوكرانيا. وبدلاً من أن تؤدي العقوبات إلى تحطيم الاقتصاد الروسي قادت إلى نتائج عكسية غير متوقعة على الاقتصادات الأوروبية، التي تواجه مشكلات هائلة أهمها التضخم الذي بلغ في 19 دولة في منطقة اليورو 9,9% وفي بريطانيا 10,1%، وارتفاع أسعار الطاقة والسلع عموماً، والخلل في إمدادات الطاقة بشكل يعيق عجلة الإنتاج الصناعي ويؤمن الكهرباء والدفء في أنحاء أوروبا.
لقد أدى ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 90 % بالمقارنة مع العام الماضي والمخاوف من شتاء قاس وبارد إلى محاولات أوروبية لوضع سقف لسعر الغاز الروسي في محاولة من الدول الأوروبية للجم الأسعار وتخفيضها. ولكن هذه المحاولات فشلت بسبب الخلافات بين الدول الأوروبية حيث انتهى اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي في 22 من الشهر الجاري بدون اتفاق على حل لموضوع الأسعار، حيث تعارض كل من ألمانيا والدانمرك وهولندا تحديد الأسعار بينما تدعم التخفيض بقوة دول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا. والمعارضون وفي طليعتهم ألمانيا يعتقدون أن تحديد سقف لسعر الغاز سيؤدي إلى احجام الموردين عن توريد الغاز لأوروبا الذي تحتاجه اقتصاداتها والتوجه بدلاً من ذلك للدول الآسيوية مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية التي على استعداد لدفع مبالغ كبيرة مقابل الغاز.
الخلافات الأوروبية لا تتعلق فقط بأسعار الغاز بل هناك خلافات مثلاً بين هنغاريا ودول الاتحاد على مبدأ العقوبات المفروضة على روسيا، حيث تطالب المجر بإلغاء هذه العقوبات التي تعتبرها غبية ومؤذية للاتحاد الأوربي أكثر من اضرارها على روسيا. وهناك خلافات بين بولندا وألمانيا حيث تطالب الأولى بأن تقوم الثانية بتقديم دعم كبير لها مقابل احتضانها للاجئين الأوكران ومساهمتها الكبيرة في الحرب لصالح دعم أوكرانيا. وهي قد توقفت عن دعم أوكرانيا بالسلاح لأنها لم تتلق تعويضات مناسبة، وانخفض احتياطي السلاح لديها بصورة كبيرة. وهناك خلاف كبير بين فرنسا وألمانيا على خلفية قيام برلين بوضع خطة وطنية لدعم الشركات والأسر الألمانية، وهو ما تعتبره فرنسا خروجاً عن مبدأ التنافس النزيه بين الشركات الأوروبية ويمس بحرية السوق. وهذا الخلاف المتفاقم ربما يكون الأخطر على وحدة أوروبا، خاصة وأن ألمانيا وفرنسا حجر الأساس في الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا منه.
من الصعب التنبؤ بمصير الاتحاد الأوروبي بعد الأزمة المتفاقمة في الشتاء الذي يبدو أنه من الأكثر برودة وقسوة منذ الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بسبب تغير المناخ والتوقعات بازدياد برودة الطقس بل كذلك بسبب نقص الطاقة وارتفاع الأسعار وعمليات التقنين الإجبارية. وما يزيد حدة الأزمة ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية في أوروبا. وبعد سقوط الحكومة البريطانية باستقالة ليزا تراس ثاني رئيس وزراء بعد بوريس جونسون بسبب التدهور الاقتصادي في البلاد الذي عبر عن نفسه بالتضخم والغلاء في الأسعار وانهيار الأسهم وسعر صرف الجنيه الاسترليني. تشهد فرنسا تظاهرات واسعة تطالب بالانسحاب من «الناتو» ووقف دعم أوكرانيا وتحمل الرئيس ايمانويل ماكرون وحكومته المسؤولية عن التدهور الاقتصادي في البلاد. كما تشهد رومانيا تظاهرات احتجاجية على غلاء الاسعار. وفي جمهورية التشيك يطالب المتظاهرون باستقالة الائتلاف الحكومي الموالي للغرب وضد العقوبات المفروضة على روسيا. حتى ألمانيا التي تحاول ما في وسعها منع التظاهرات بسبب هشاشة الائتلاف الحكومي الجديد الذي يضم أحزاب «الاشتراكي» و»الليبرالي» و»الخضر»، والذي قد يسقط نتيجة أي هزة شعبية جدية، شهدت هي الأخرى اضرابات لدى الطيارين.
تفاقم الأزمات الاقتصادية وتصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية قد يؤدي إلى سقوط حكومات أوروبية على غرار ما حصل في بريطانيا. كما أن نتيجة الانتخابات الإيطالية بفوز زعيمة الحزب الأكثر يمينية وتطرفاً في البلاد «إخوة إيطاليا» برئاسة الحكومة جورجيا ميلوني المعروفة مواقفها ضد الاتحاد الأوروبي وتشكيلها حكومة مع حزب «فورتسا ايطاليا» المحافظ الذي يتزعمه سيلفيو بيرلسكوني صديق بوتين وحزب «الرابطة» اليميني هو نذير شؤم لأوروبا الموحدة على الرغم من أن رئيسة الوزراء الجديدة أكدت تعاونها مع دول الاتحاد.
أوروبا تعاني من العقوبات التي املتها الولايات المتحدة ضد روسيا، والتي ارتدت عليها في أزمة الطاقة والتضخم وارتفاع الأسعار، وتعاني في نفس الوقت من استغلال الشركات الأميركية للأزمة وبيعها أوروبا الغاز بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تشتري به الغاز الروسي، وهو ما تفعله النرويج كذلك. الأمر الذي حدا بالرئيس الفرنسي إلى انتقاد الولايات المتحدة علناً على هذا الاستغلال. والأمور ستظل مفتوحة بشأن تبعات الأزمات الاقتصادية وتطورات الحرب الأوكرانية على أوروبا. ولكن روسيا بدون شك تراهن على الشتاء وربما يكون في جعبتها المزيد من المفاجآت لأوروبا التي باتت مستنزفة وتدفع أثماناً باهظة.