انحدار الديمقراطية مجرد عرض. هو فقدان للثقة بعدد من القيم الأساسية مثل المنطق والإنسانية والعقلانية والتناغم. على أساس هذه القيم ولدت الديمقراطية الأولى في القرن الخامس قبل الميلاد، وعندما يتم سحق هذه القيم فإن الديمقراطية تنهار. هكذا كان الأمر في بداية القرن العشرين، وهكذا أيضا في بداية القرن الواحد والعشرين. ما بعد الحقيقة وما بعد الإنسانية هي روح هذا العصر. انهيار الديمقراطية هو أحد الأعراض.
عندما ولدت الديمقراطية الأولى فان النموذج الموجه كان الثقافة العالية. في اليونان أطلقوا على ذلك اسم "فيدياس"، وبعد ذلك ترجم في روما الى "هومنيتيس (إنسانية). في أساس هذا النموذج يوجد تصور بأن هناك فجوة كبيرة بين الإنسان النتاج البيولوجي وبين الإنسان النتاج الثقافي. والتحدي الرئيسي في حياة كل إنسان هو تحقيق الإمكانيات الإنسانية الواضحة وتحدي نفسه بأعلى المعايير للإنسانية، بتعهد الجسم والروح والأخلاق والسياسة والفن.
الديمقراطية هي نوع من إنجاز إنساني. ليست لدينا جينات ديمقراطية أكثر مما يوجد لدينا من جينات فاشية، وليست الديمقراطية التي كانت ذات يوم تساوي الديمقراطية في أيامنا. مثل أي انجاز آخر لروح الانسان، في مجال العلم والأخلاق والقانون والطب وغيرها، فان الديمقراطية في افضل الحالات هي ثمرة تعليم وتطبيق دائم عن طريق اجراءات الخطاب الحر والمتنور والنقدي. الدليل على ذلك هو أننا نجد على سبيل المثال في حقيقة أنه في السابق لم تُعتبر النساء والأجانب والأطفال من بني البشر بكل معنى الكلمة، في حين أنه الآن في الديمقراطيات الليبرالية هم من البشر المتساوين تماما. مثال آخر على ذلك هو التحرر من عمى التنوير فيما يتعلق بالعقلانية الخالصة لـ "الرجل الأبيض المفكر" والتحول الى الاعتراف بأن الديمقراطية يجب أن لا تكون ليبرالية فقط، بل يجب أن تكون متعددة الثقافات أيضا. انحدار الديمقراطية في هذه الأيام هو عرض للتجاهل الكامل للقيم الأساسية المتطلبة والمتحدية للثقافة واسعة الآفاق والتفكير النقدي، والأخلاق المتشددة بشأن الاستقامة والنزاهة، والمواطنة الجيدة التي تحرص على أن تطلب التناغم بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة.
في الواقع الحالي فان الترامبية والبوتينية، ويمكن أيضا إضافة مودي الهندي وبولسينارو البرازيلي ونتنياهو الإسرائيلي واوربان الهنغاري واردوغان التركي اليها، لا يوجد فيها أي مظهر من مظاهر الالتزام الثقافي بضبط النفس وتقييد القوة لصالح المصلحة المشتركة التي تتمثل بحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية. لن تجدوا لديهم أي قدر ضئيل من الخجل بأنهم يفضلون التعسف على المنطق، والاستقواء على الانصاف، والجشع على الاستقامة، والطمع على التواضع، والانانية على الصالح العام. وبكلمات روسو، وعي الخير والشر هو الذي يؤدي الى الاخلاق والعدالة. وفي ظل غياب البنية التحتية المطلوبة فانه لن ينمو أي خير.
بصورة متعمدة لم أقم بالإشارة الى الأنظمة الديكتاتورية مثل كوريا الشمالية والسعودية، لأنه في انتخاب الزعامة السياسية هناك لا يوجد أي إجراء يشبه الإجراء الديمقراطي. والمآسي الكامنة في انحدار الديمقراطية تنطبق على أماكن فيها جمهور الناخبين، بدرجة متغيرة من الحرية والشفافية، أدى بمجرد انتخابه الى انهيار الديمقراطية. يجب عدم الدهشة من ذلك. فعندما تعتبر النيوليبرالية وعبادة الاستهلاك والغنى الاقتصادي قيمة عليا، وعندما تصبح مجالات الحياة سلعة، وتدفع التسلية السهلة الى الهامش الثقافة، وعندما يصبح التباعد الاجتماعي والاغتراب عن الطبيعة هو المهيمن، وعندما ترتفع التكنولوجيا الرقمية، ويتم إهمال الثقافة الإنسانية، وعندما تعبد الأجيال الشابة المشاهير وتشكل نفسها بهوس نرجسي بالماركات التجارية الجذابة، عندها يكون من الصعب توقع أن يتمتع المواطنون بالمهارات المطلوبة لفهم واقع حياتهم واتخاذ قرار متنور ومدروس لاختيار قادتهم.
انحدار الديمقراطية هو عرض. وهي تتلاشى لأنها جزء لا يتجزأ من ثقافة طلب ذاتي لمستويات عالية من الإنسانية. ليس صدفة أن قادة الديمقراطية هم أيضا قادة الكرة الأرضية، ومن ينكرون الاحتباس الحراري وأزمة المناخ. أيضا العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات والتعاطف مع الضعفاء والمتمردين والصحافة الحرة والعقلانية وتقدم الفنون، كل تلك أمور تافهة بالنسبة لهم.
يجب النضال بكل القوة لمنع انهيار الديمقراطية. ولكن يجب علينا معرفة أنها ليست أسلوب في الحكم وليست إجراء سياسياً، بل هي مركب واحد ومهم وإنجاز رئيسي في محاولة بني البشر، الشاملة والمتواصلة، كي يصبحوا بشراً أكثر بقليل.
عن "هآرتس"
