هل يستفيق العرب في الجزائر؟

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 

ثلاث سنوات غابت القمة العربية، قبل أن يتّفق العرب على عقدها في الجزائر.
ثلاث سنوات غاب العرب عن الوعي، إزاء مصالحهم القومية الجامعة، وإزاء قضيتهم المركزية، التي لم تغب في الواقع رغم غياب العرب عنها.
العام 1988، عقد العرب قمّة في الجزائر سموها "قمة الانتفاضة"، وكانت الانتفاضة الشعبية الكبرى في فلسطين العام 1987، قد فرضت على العرب جدول أعمالهم واهتماماتهم، حيث لم يكن بمقدورهم تجاوز أبعادها وتأثيراتها على المنطقة والعالم.
في بداية شهر تشرين الثاني القادم تنعقد القمة في الجزائر، وتحمل من جديد اسم فلسطين، ليس لأن الجزائر ترغب في ذلك فقط، وليس لأن ثمة انتفاضة فلسطينية، وإنما لأن التطورات والأحداث العالمية، تفرض عليهم الانتباه لمصالحهم.
منذ الحرب العالمية الثانية، خضع العرب عموماً، وكانوا لتوّهم قد حققوا استقلالاتهم خضعوا وأخضعوا أنفسهم وثرواتهم وشعوبهم لسياسات ومصالح الطرف المنتصر، والأقوى في النظام الدولي ثنائي القطبية، ولكن ذلك الانحياز للمعسكر الرأسمالي لم يحترم خياراتهم وسيادة أنظمتهم، ولم يرحم مصالحهم ومصالح شعوبهم وفرض عليهم نظاماً من الهيمنة.
اختلفت الدنيا هذه الأيّام ومنذ الحرب في أوكرانيا، واتضح أكثر من أيّ وقتٍ مضى، أن الأطراف المنخرطة في الصراع، كل منها يبحث عن مصالح بلاده الأنانية، ولا يقيم وزناً لمصالح الآخرين الخاصة.
خلال السنوات الثلاث قبل "قمة الجزائر"، تعمّقت القُطرية العربية، وسادت العلاقات البينية، ومنهم من استنجد من الرمضاء بالنار الإسرائيلية.
القضية الفلسطينية أصبحت بالنسبة للنظام العربي الرسمي مجرّد بيانات، وتصريحات ومواقف مكرّرة لا معنى ولا مضمون لها، وتُرك الفلسطينيون وحدهم يُصارعون العنصرية والإرهاب الإسرائيلي.
وخلال تلك السنوات العجاف، أقفل النظام العربي الرسمي خزائنه أمام تزايد حاجة الفلسطينيين، الذين تسرق إسرائيل أموالهم وثرواتهم وحياتهم وتتخلّى عنهم الولايات المتحدة، فيما قلّصت أوروبا الدعم لهم.
لم ييأس، ولم يكن من المتوقع أن ييأس الفلسطينيون، فالقضية قضيتهم وهم من عليه أن يتحمل العبء الأكبر والأساسي، وهم لم يفقدوا الأمل ولا ليومٍ واحد، إزاء صحوة عربية قادمة، تعيد للقضية مكانتها.
في "قمة الجزائر" ليس من المتوقع أن يتغير الموقف العربي جذرياً، وأن يستعيدوا بالكامل وعيهم لمدى خطورة السياسات الأميركية الإسرائيلية على قضاياهم ومصالحهم، ومستقبلهم، ولكن ثمة مؤشّرات صحوة عربية، نحو اتخاذ خيارات مستقلة، تخرج عن دائرة المألوف.
بداية هذه المؤشّرات، ظهرت في "قمة جدة" بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن والتي لم تحقق خلالها الولايات المتحدة ما أرادت، سواء فيما يتعلق بزيادة معدّلات إنتاج النفط، أو بإقامة الحلف الذي أرادته بقوة وبضمنه إسرائيل.
ثمّ تعزّز هذا الميل، حين اتخذت "أوبك بلس"، قرارها بخفض مستوى الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، بما يُخالف تماماً المصلحة والرغبة الأميركية وكان ذلك، انطلاقاً من وعيٍ عميق للتحوّلات الدولية الجارية والمرتقبة، وحاجة العرب لتحديد مواقعهم من جديد بناءً لمصالحهم الوطنية.
صحيح أن بعض الدول العربية المعنية، اضطرت لتقديم ملايين الدولارات لأوكرانيا، لإظهار حُسن نية إزاء الاتهامات الأميركية، بأن قرارات "أوبك بلس" تشكل دعماً وربما انحيازاً لروسيا، لكن هذه لا تكفي لإطفاء نار الغضب الذي يعتمل في صدور الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، ولكن وبصراحة شديدة ما كان على الذين قدموا الأموال لأوكرانيا، أن يفعلوا ذلك في الوقت الذي تتلقّى فيه أوكرانيا مساعدات بمليارات الدولارات من الدول الغربية بذريعة المساعدة في ردّ الغزو والاحتلال الروسي.
إن كان الأمر يتعلق برفض الاحتلال، ورفض استخدام القوة ضد دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، فإنّ على العالم أن يرفض الاحتلال الإسرائيلي وأن يساعد الشعب الفلسطيني في مقاومة احتلال عنصري إرهابي لا يعترف بالشرعية الدولية بل ويسخر منها.
ينبغي على القمة العربية أن تنطلق من وعيٍ عميق لسياسات النفاق الغربي، الذي يمارس ازدواجية المعايير على نحوٍ فاضح، ويتشدّق بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لا ينتهكها على وجه الأرض أكثر من إسرائيل.
إن انتصار العرب للقضية الفلسطينية، هو انتصار لمصالحهم وكراماتهم، وانتصار لقيم العدل، وهو اختيار لتحديد مكانتهم في قادم السنين، إلى جانب القوة الصاعدة.
يترتّب على الذين سيجتمعون في الجزائر إدراك أن الإمبراطورية الأميركية في حالة تراجع، وستخلي مكانها ومكانتها لقوى عالمية صاعدة أخرى، وأنها لم تعد تخيف أحداً، إلّا من فقد البصر والبصيرة.
حتى إسرائيل أدركت ذلك، بالرغم من متانة وقوة علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية التي أنشأتها، ودعمتها كل الوقت ولا تزال تقدم لها كل شيء.
حتى إسرائيل لا تكفّ عن التفكير وبانتهازية واضحة، في مصالحها وتحالفاتها القادمة في ظلّ المتغيّرات الدولية المرتقبة والأكيدة.
ماذا يعني ذلك وحتى يكتسب اسم القمة "فلسطين" انسجاماً مع المضمون؟
أولاً، لا بدّ أن يتّخذ العرب قرارات واضحة لصالح الحقوق الفلسطينية والعربية، وأن يضعوا قدراتهم وثرواتهم وما يملكون في ميزان العمل والضغط الحقيقي والجدّي لجهة تغيير السياسة الدولية تجاه القضية الفلسطينية، وتحقيق الشرعية الدولية.
ثانياً، لا بدّ من تحرير الفلسطينيين من الضغوط الغربية والأميركية من باب الحاجة للأموال والمساعدات، يستطيع ولا بدّ أن يقرر العرب حماية الفلسطينيين، من خلال العودة لتقديم الدعم المالي، والمادي للشعب الفلسطيني سواء لخزينة السلطة، أو لـ"الأونروا" أو لـ"المجتمع المدني".
ثالثاً، حتى وإن استمر العرب الذين وقّعوا على "اتفاقيات تطبيع" مع إسرائيل، في مواصلة هذه السياسة، فإن الواجب القومي، والتوازن يقتضي توظيف علاقاتهم واتفاقياتهم للضغط على إسرائيل من أجل وقف مجازرها، وإرهابها وسياساتها التوسعية على حساب الحقوق العربية.
القمة في الجزائر ليست امتحاناً للجزائر التي تتمسّك بدعمها الكامل وانتصارها لفلسطين وإنما هي امتحان لبقية العرب، إزاء انحيازهم وانتصارهم لمصالحهم، وكراماتهم، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.