عن العرين، والتنظيمات المسلّحة (1من2)

تنزيل (20).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

 

استكمالا للمقال السابق، وبدلاً من الإفراط في مديح "عرين الأسود"، والتغني ببطولاتهم بلغة شعرية وخطابية، وتحميلهم فوق طاقتهم، أرى ضرورة تناول الظاهرة بمنهجية علمية وموضوعية، وفتح نقاش واسع، ليس من باب التحليل السياسي وحسب؛ بل لتقديم مقترحات من شأنها تقويتهم، وتلافي أي أخطاء ممكنة، وأيضا بدون نصائح وإرشادات.
بداية، من المهم الإشارة إلى الظرف السياسي الذي نشأت فيه مجموعة العرين، وغيرها من المجموعات المسلحة، فقد أدى تراجع دور وفاعلية الفصائل الوطنية إلى خلق فراغ سياسي ونضالي في الساحة الفلسطينية، ما سمح بظهور الحالات الفردية، التي تحولت إلى خلايا صغيرة مسلحة، ومن ثم إلى مجموعات أوسع أخذت تطوّر خطابها وآليات عملها، حتى باتت قادرة على تحريك الجماهير، مثل الإعلان عن الإضرابات، وتسيير تظاهرات شعبية.
كانت البداية في جنين، ثم انتقلت إلى نابلس، وهي مرشّحة للتوسع في بقية الضفة الغربية، وقد ظهرت تلك المجموعات في وقت يعاني فيه الفلسطينيون من حالة تراجع وسكون طال أمدها، لدرجة أنها صارت تولد هواجس وجودية خطيرة تطال القضية الفلسطينية (أي تراجع الاهتمام العالمي بها)، مع إحساس بطعنات غادرة في الظهر من دول التطبيع، في ظل تصعيد خطير ومتعمد من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين بروح عنصرية عدائية تملؤها الغطرسة.. وهذا بالطبع يستدعي استنهاض روح التحدي، الأمر الذي تكفلت به تلك المجموعات المسلحة.
ومع ظهور عرين الأسود، وما سبقها وتبعها من عمليات فدائية جريئة، وكان آخرها عمليتا الشهيد عدي التميمي والشهيد محمد الجعبري، بدا وكأن الجماهير بدأت تستعيد روحها النضالية، وتسترد بعضاً من كرامتها الوطنية بعد أن بثت تلك العمليات بعض الطمأنينة في روحها الجمعية، وهذا أكثر ما تحتاجه.. الأمر الذي يفسر نشوة الفرح واستعادة الأمل، التي ظهرت في حجم الالتفاف الشعبي حول الكتائب المسلحة، وما ينشره الناس على وسائل التواصل الاجتماعي عنها، وبطريقة لا تخلو من الأسطرة.
مسألة أخرى بالغة الأهمية تتعلق بالظرف السياسي، وهي استمرار الانقسام، لدرجة تهدد بتأبيد انفصال شطري الوطن، بما يغلق تماما أي أفق سياسي لأي حل وطني، بل ويفتح طريقا وحيدا، وهو حصر حل القضية في قطاع غزة، وإنهاء الصراع بإعلان القطاع دولة مستقلة.. وبعد فشل جولات المصالحة، لم يعد ممكنا استعادة الوحدة الوطنية إلا من خلال نهضة جماهيرية (انتفاضة)، وتصعيد وتيرة النضال وتجسيد الوحدة في الميدان، وهذا بالضبط ما فعلته "عرين الأسود" وغيرها، واستمرار هذه الحالة الكفاحية وتعميمها هو فقط ما يمكنه إنهاء الانقسام.
ومع كل ما سبق، فإن الإفراط في مديح "عرين الأسود"، وتعليق كل الآمال عليهم وكأنهم خشبة الخلاص الأخيرة أمر بالغ الخطورة، فمن الواضح أن إسرائيل تتعمد تضخيم ظاهرة المجموعات المسلحة، والزعم بأنها الخطر الوحيد الذي يهددها، تمهيدا لتصفيتهم بالاغتيالات والاعتقالات، وبالتالي قتل الأمل في الروح الفلسطينية.
ظاهرة المجموعات المسلحة يضعها أمام تحديات مهمة؛ أولها التحدي الأمني، فمن المعروف أن لدى إسرائيل قدرات تكنولوجية هائلة، تمنحها القدرة على الرصد والتتبع بدقة متناهية، وهذا يتطلب اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر في الإقامة والتنقل، وتجنب الظهور في الإعلام، والتقاط الصور، واستخدام الهواتف النقالة، والمشاركة في الجنازات...إلخ. خصوصا عند الردّ على الجرائم الإسرائيلية بعمليات هجومية، ففي ذلك مخاطر كثيرة، منها سهولة استهدافهم قبل أو أثناء العملية.
التحدي الثاني: تعميم فكرة التشكيلات العابرة للفصائل، وتقديم نمط نضالي جديد يجسد الوحدة الوطنية، ويعتمد المقاومة الشعبية، مع الدفاع المسلّح ضد الانتهاك الإسرائيلي اليومي. دون مظاهر العسكرة التقليدية، أي تجنب تحويل الفعل الجماهير (المرشح للتحول إلى انتفاضة) إلى العسكرة، وهو الخطأ القاتل الذي أودى بالانتفاضة الثانية، فالعسكرة (كما يقول حسن خضر)، هي "الاستيلاء على الظاهرة الشعبية، وتشظي الفعاليات والتنافس الفصائلي على أسس فئوية ضيّقة".
ومع استمرار العمليات الفدائية، ولكن بانتقاء الأهداف العسكرية وتجنب المدنيين، مع التأكيد على أن الهدف ليس القتل بحد ذاته، وهي الرسالة العظيمة التي حاول الشهيد عدي التميمي إيصالها.
التحدي الثالث: الاستفادة من تجارب الانتفاضتين، أي تفادي الأخطاء السابقة، ففي تلك التجربتين ظهرت تشكيلات عسكرية، سرعان ما تبين وجود أجندات مختلفة للفصائل التي تتبعها، وبالتالي تشتّت أهدافها المختلفة، ما أدى إلى فقدانها حاضنتها المجتمعية. ومن وحي التجربة الفلسطينية، بل ومن تجارب جميع التشكيلات المسلحة تاريخيا، ما كان يجري فعليا هو تحولها السريع من مجابهة العدو الخارجي إلى محاولتها فرض أجنداتها السياسية أولا، ثم فرض أجنداتها الاجتماعية وثقافتها وأيديولوجيتها على المجتمع. تبدأ ذلك من خلال التفرغ لتصفية العملاء، الأمر الذي يكسبها مهابة وقوة تستطيع من خلالها فرض وجودها وفلسفتها على المجتمع، وبالتالي تتحول تدريجيا إلى استبدادية من نوع آخر.
فمع امتلاكها القوة، وللتعويض عن عجزها في تحقيق انتصار حقيقي على العدو (بسبب الخلل الفادح في موازين القوى وفي القدرات) يشعر بعض أفراد تلك المجموعات بحاجتهم إلى تحقيق أي انتصار من أي نوع، وعادة يجدون ضالتهم في الأهداف المحلية. وهنا تبدأ الأهداف السياسية بالاختفاء (تتحول إلى شعارات مثالية)، وما يفاقم من المعضلة أنها تضع نفسها في عزلة عن العالم الخارجي وتحولاته ومتطلباته الواقعية ومعاييره السياسية.
لذا، من المهم إدراك أن الانتصار ليس سهلا، ولا يتحقق بالسرعة والكيفية التي نرغب بها، فالمعركة صعبة ولن تحسمها الضربة القاضية، ولا يوجد أي فصيل أو تشكيل مسلح مهما بلغت شجاعته قادر بمفرده على تحقيق النصر.. ولكن كل تجربة كفاحية مهما كان حجمها هي إضافة نوعية، وخطوة أخرى تقربنا من تحقيق أهدافنا.. فالدرب طويل، وما نحتاجه فعلا هو تراكم الخبرات النضالية، والبناء عليها، وتضافر كل الجهود في شتى الميادين.. ما يعني أن التحدي الأهم يقع على عاتق الجماهير، وألا تتحول إلى متفرج ينتظر الأخبار.. فالفعل الجماهيري هو العنصر الحاسم في الصراع.
مصير ومستقبل التشكيلات المسلحة موضوعنا القادم.