الدورة الانتخابية الإسرائيلية للكنيست 25، هي الخامسة التي تجري في غضون أقل من أربع سنوات، وهي المدة القانونية للدورة الانتخابية الواحدة، وهذا يعكس مدى عدم الاستقرار في نظام الحكم في إسرائيل، والذي ربما يعود في أحد أسبابه، إن لم يكن أهمها، إلى عجز إسرائيل عن التوصل إلى حل مع القيادة الفلسطينية، يضع حدا لاحتلالها المتواصل والذي يسبب لها عدم الاستقرار، والظهور بالحالة غير الطبيعية التي هي عليها، مهما حاولت وسعت إلى «تطبيع» علاقاتها مع بعض الدول العربية، ومع المجتمع الدولي، إضافة إلى ما يسببه من قلق داخلي، خاصة حين ترتفع حدة التوتر، أو منسوب المقاومة، وما يؤكد ذلك هو أن السنوات السابقة التي أعقبت توقف المفاوضات خاصة، أي منذ العام 2014، ورغم انسحاب إسرائيل قبل ذلك من قطاع غزة، إلا أن فعل المقاومة الفلسطينية لم يتوقف، كذلك لم يكف الشعب الفلسطيني عن التصدي لكل محاولات الاستيلاء على المسجد الأقصى، وتهويد القدس.
أما الجولة الخامسة من الانتخابات العامة الإسرائيلية، ورغم أنها تشهد أسوأ ترشح عربي، يتمثل في ثلاث قوائم، كانت كلها تشكل قائمة واحدة العام 2015 بما يعني بأن العرب بالكاد، سيعودون إلى شغل ثمانية مقاعد في الكنيست القادم ــ هذا إن لم يقع الأسوأ، وهو عدم تمكن إحدى القائمتين اللتين تمثلتا في الكنيست السابق بأربعة مقاعد لكل منهما، من تجاوز نسبة الحسم ــ موزعة بين قائمتي العربية الموحدة برئاسة عباس منصور، وتحالف الجبهة الديمقراطية والعربية للتغيير برئاسة أيمن عودة، وقائمة التجمع الوطني الديمقراطي برئاسة سامي شحادة، وذلك من بين 40 قائمة، إلا أن استطلاعات الرأي لا تمنح أيا من المعسكرين المتنافسين فوزا صريحا، والذي إن جاء فلن يتعدى الأغلبية البسيطة، أي فارق صوت أو اثنين، اللازم أحدهما لتشكيل الحكومة.
كان يمكن بالطبع أن تجري الانتخابات الإسرائيلية في ظل توقع صريح بفوز معسكر المعارضة برئاسة بنيامين نتنياهو، وذلك لأنه عادة ما يفوز المعسكر المعارض، حين يفرض قرار حل الكنيست وتبكير الانتخابات، لكن الوصول بعد ثلاثة أشهر من ذلك القرار إلى صناديق الاقتراع، واستطلاعات الرأي تمنح معسكر نتنياهو الحصول على 60 ــ 61 مقعدا فقط، يعود ــ برأينا ــ إلى ما لجأ إليه ثنائي الحكم يائير لابيد ــ بيني غانتس، من إشعال الحريق في الضفة الغربية، منذ نهاية آذار الماضي، والدفع بنحو نصف الجيش الإسرائيلي، وبالتحديد باثنتين وعشرين فرقة عسكرية إلى الضفة الغربية، لإعادة احتلالها، من خلال اقتحام المدن، التي كانت قد انسحبت منها ضمن اتفاقيات أوسلو، بما يعني التراجع تماما، عن تلك الاتفاقيات وإلغاءها من قبل الحكومة البديلة لحكومة نتنياهو، هذا بالطبع إضافة إلى عوامل أخرى.
من تلك العوامل، وجود رئيس أميركي ديمقراطي في البيت الأبيض، منح يائير لابيد الدعم اللازم، كما كان يفعل من قبله سلفه دونالد ترامب تجاه بنيامين نتنياهو، ثم كذلك المقاومة الفلسطينية الباسلة التي واجهت الاحتلال في مدن الضفة الغربية، والتي رغم أنها ما زالت لم تظهر على صورة الانتفاضة الشعبية العارمة، إلا أنها تتسع، فبعد أن كانت تقتصر على جنين، شملت نابلس ثم الخليل، وهي مع القدس أهم محافظات الضفة الفلسطينية، كذلك كونها تجمع بين الطابع العسكري والشعبي، وتجمع أشكال المقاومة المختلفة، ولا تقتصر على شكل وحيد، بما رفع من عقيرة اليسار الإسرائيلي مجددا، وإن على استحياء، بما يعني أن الإسرائيليين يصوتون هذه المرة، على عودة البند الفلسطيني لأجندة الحكومة الإسرائيلية من عدمه.
وهذا ما حاول نتنياهو أن يثيره في دعايته الانتخابية قبل يوم إجرائها، لتحريض ناخبيه على التصويت بكثافة ترجح كفة معسكره، لكن الحقيقة أيضا، أن بقاء نتنياهو كمنافس شخصي، في آخر معاركه الانتخابية، يعود إلى فشل كل محاولات خصومه لإدانته عبر القانون بتهم الفساد، فهو ورغم نزع الحصانة السياسية عنه، طوال عام ونصف العام قضاها خارج مكتب رئيس الحكومة الكائن في شارع بلفور في القدس، إلا أن دخوله السجن لم يحدث، وبالتالي فإن اختفاءه بقوة القانون عن حلبة السياسة لم يقع، بما منحه فرصة الكفاح للعودة مجددا إلى مقعد الحكم، الذي أمضى فيه زمنا قياسيا، لم يسبقه له أي من رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقين.
عموما، فإن إسرائيل بعد هذا اليوم، ستكون أمام أحد احتمالين، إما أن ينجح بنيامين نتنياهو في الحصول على الأغلبية البسيطة، وتشكيل حكومة يمين مع يمين متطرف، حيث بدلا من «البيت اليهودي» الذي أنجب نفتالي بينيت وايليت شاكيد، سيحل حزب «الصهيونية الدينية» ممثلا بكل من بتسلئيل سموترتيتش وهو عضو سابق بـ»البيت اليهودي»، وإيتمار بن غفير، وحين ذاك سيواجه نتنياهو مشكلة منح ابن غفير بالتحديد مقعدا حكوميا، بعد أن عارضت واشنطن وأكثر من عاصمة عربية تهتم لها إسرائيل بسبب اتفاقية أبراهام، ذلك علنا، أو احتمال ألا يحصل نتنياهو على الرقم السحري، أي 61 مقعدا، وحينها يكون المعسكر الآخر بقيادة لابيد أمام احتمال أن يسعى لشبكة أمان عربية، مقابل الالتزام بفتح الباب أمام الأفق السياسي مع الجانب الفلسطيني.
ويبقى ما بين هذين الخيارين، في حال التعادل بين المعسكرين، أن تجري محاولات التقاطع بينهما، وسيقود هذا بيني غانتس، الذي سيقدم صورته الأمنية دون أي صورة سياسية، يمينية أو يسارية، وربما سيقول بحكومة وحدة لمواجهة التهديد الأمني ولمتابعة حربه على الضفة، أو أن يفشل الجميع مجددا، بحيث يذهبون إلى انتخابات أخرى بعد أشهر يظل خلالها يائير لابيد رئيسا لحكومة انتقالية، كما كان حال نتنياهو طوال معظم الفترة ما بين عامي 2019 ــ 2021.
لكن في كل الأحوال، ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على مدن الضفة الغربية، حيث لن تتراجع حكومة برئاسة نتنياهو عن العنف الذي قام به بيني غانتس، كما لن تتوقف المقاومة الفلسطينية عن التصدي لتلك الحرب، وهذا يعني أن البند الفلسطيني سيعود ليفرض نفسه على أجندة الحكومة الإسرائيلية ما بعد الانتخابات أيا كانت طبيعتها، خاصة مع تقدم القناعة الأمنية الإسرائيلية بفشل الحل الأمني، واستمرار انشغال الولايات المتحدة بمشاكلها الناجمة عن رغبتها في استمرار هيمنتها الدولية على العالم، في ظل التحدي الروسي والصيني وغيرهما لتلك الهيمنة، وإذا ما ذهبت إسرائيل إلى جولة أخرى من الانتخابات، أي مع فشل أي من المعسكرين بتشكيل الحكومة، سيعني ذلك إضافة أشهر أخرى من المواجهة الفلسطينية ــ الإسرائيلية، ستتضح خلالها الصورة أكثر، بما يؤكد أن إسرائيل ستصوت في نهاية مطافها على الحل السياسي مع الجانب الفلسطيني، وإلا فإنها ستظل تواجه عدم الاستقرار الداخلي، إلى أن يقع الحل الذي يفضي إلى انتهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين.