بعد استشهاد عدد من عناصر «عرين الأسود»، وتسليم عدد آخر أنفسهم لأجهزة أمن السلطة الوطنية، ومع اشتداد الحصار الإسرائيلي على البقية، ووضعهم على قائمة الاغتيالات.. السؤال المطروح، والذي يشغل بال الفلسطينيين: ما مصير «العرين»؟ وما هي دلالات تسليم بعض أفرادها أنفسهم للأمن الفلسطيني؟
سأجيب بداية عن السؤال استناداً إلى البيان الرسمي الذي نشرته مجموعة العرين: «من يقوم بتسليم نفسه من المقاتلين، هذا قراره وخياره ولا نناقشه فيه، ونطلب من المواطنين عدم الإساءة له. وستظل عرين الأسود ماضية في طريق مؤسسيها الذين اغتالتهم إسرائيل».
وحسب مصدر رسمي، رفضت السلطة الوطنية طلباً إسرائيلياً باعتقال أعضاء المجموعات المسلحة في جنين ونابلس، ولكنها عرضت بدلاً من ذلك صيغة تقوم على إقناع هؤلاء المقاتلين بإلقاء السلاح وتسليم أنفسهم لأجهزة الأمن الفلسطينية، ووضعهم في مقرات آمنة، حمايةً لهم، مضيفاً: «هؤلاء أبناؤنا، وأوضحنا لهم منذ البداية أننا نريد حمايتهم، وهم فضَّلوا الذهاب إلى خيارهم، ولم نقف في طريقهم، لكن عندما وجدوا أنَّ فرصة النجاة شبه معدومة عادوا إلينا وقمنا باحتضانهم ووفَّرنا لهم الحماية».
من الواضح أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تمكَّنت من معرفة هوية جميع المقاتلين، نظراً لإمكاناتها التقنية والاستخبارية المتطورة، وبسبب طريقة عمل المسلحين شبه العلنية، واستغلال بعض ثغراتهم الأمنية التي بدت لهم بسيطة. وبناء عليه قررت إسرائيل اغتيالهم، وبالتالي لم يعد هناك مكان آمن يمكنهم اللجوء إليه، لذلك قبل بعضهم عرضاً من السلطة بإلقاء السلاح. ولكن ما دلالات ذلك؟
أولاً: قيام مجموعة من المسلحين بتسليم نفسها لا يعني نهاية الحالة، فهناك عدد آخر من المسلحين ما زالوا رافضين إلقاء سلاحهم، وهناك عدد لا يمكن حصره أو التنبؤ به من الشبان الفلسطينيين الذين قد ينفذوا عمليات مسلحة في أي وقت، ومن أي مكان، فطالما هناك احتلال ستقابله مقاومة. والمسألة لا تقتصر على «العرين» وغيرها من التشكيلات المسلحة، وعلى الأرجح ستكون مثل هذه الحالات غير منتسبة رسمياً لأي فصيل سياسي.
ثانياً: تظن إسرائيل واهمة، ومدفوعة بعقلية الغطرسة المتخمة بالقوة، أنها تستطيع إنهاء أي ظاهرة لها علاقة بالمقاومة من خلال القوة والقمع، وهي عقلية عقيمة، ولن تجني من ورائها سوى الخيبات، بدليل أنها تمارس الاغتيالات والاعتقالات والبطش منذ عقود ومع ذلك ما زال الشعب الفلسطيني عصياً على الكسر، وما زال يجترح في كل يوم مأثرة نضالية، تلهم الآخرين، وتجدد جذوة الثورة، وتحيي نَفَس المقاومة وتلهب روح التحدي.
وتظن واهمةً أيضاً أنها من خلال سياسات الحصار والعقوبات الجماعية ستعمل على عزل المقاومين عن الشعب، وكيّ الوعي الوطني وصولاً إلى اقتناع العقل الجمعي بأن العمليات الفدائية ستجر على الشعب المزيد من المتاعب والخسائر، وأنه لا طائل منها. وهذه أيضا عقلية عقيمة، بدليل أن حصارها لنابلس أدى إلى مزيد من التأييد للعرين، واحتضان الشعب لهم، فقد خرجت ألوف مؤلفة في جنازات الشهداء وهي تهتف لهم. والأمر نفسه ينطبق على سائر المناطق. بل إن نجم «عرين الأسود» زاد سطوعاً، وقد مثّلت حالة كفاحية تستقطب الكثيرين ممّن سيقلدون هذا النموذجَ، والحاضنة الشعبية التي حظوا بها ستلهم الكثيرين لمواصلة الكفاح، وبدلاً من مواجهته خلايا محدودة سيواجه الاحتلال شعباً بأكمله.
ثالثاً: يجب أن ندرك أن الحاضنة الشعبية، رغم أهميتها، لا تكفي لديمومة خيار العمليات المسلحة، فهؤلاء المقاتلون يحتاجون أماكن آمنة يؤوون إليها، وأدوات اتصال لا يمكن تتبعها، ويحتاجون أسلحة وذخائر، ومعدات عسكرية، ولعلاج الجرحى يحتاجون مستشفيات لا يمكن للجيش اقتحامها. وهذه المتطلبات الأساسية من ناحية واقعية شبه مستحيلة، فمن السهل على أيّ منا دعم المقاتلين والمطارَدين بالكلام والهتاف، ولكن ليس سهلاً على أي منا إيواء أحدهم، خاصة أنَّ عقوبة ذلك ستكون هدم البيت، والاعتقال لسنوات طويلة. وهذا يقودنا إلى نقاش خيار الكفاح المسلح من جديد، مع الأخذ بعين الاعتبار الحقيقة التالية:
طبيعة الضفة الغربية لا تتيح لها خوض حرب عصابات، فهي منطقة جغرافية محدودة، مكتظة بالسكان، مدنها صغيرة وليس فيها أنفاق تحت الأرض، ولا توجد بها صحارى شاسعة، ولا غابات كثيفة، ولا جبال ممتدة تضم كهوفاً وأماكن للانتشار والاختباء، وليس لها حدود مفتوحة مع دول الجوار. هي أراضٍ مكشوفة، وفوق ذلك تخضع لاحتلال عسكري مباشر، لديه مئات الحواجز والنقاط العسكرية وآلاف الكاميرات ونقاط المراقبة. ومثل هذه الطبوغرافية قد تسمح بنشوء حالات قتالية فردية من حين إلى آخر، ولكنها لا تصلح أبداً لاستمرار وديمومة وانتشار هذا النوع من العمل العسكري.
هذا ليس اكتشافاً جديداً، هذه حقائق معروفة منذ البداية، بل إن الجنرال «جياب» قائد الثورة الفيتنامية نصح قادة الثورة الفلسطينية عشية الإعلان عن الانطلاقة بالتريث، وقال حينها: «لن تتلقوا دعماً من دول الجوار، كما حدث مع الثوار الفيتناميين، بل ستواجهون عداء منها»، ومع إصرار القيادة على الانطلاقة وصفها بـ«ثورة المستحيل».
وبالنظر إلى عرين الأسود وبقية المجموعات المسلحة، سنجد أنها عبارة عن تنظيمات محلية، أي أنَّ حدود عملها ضمن محيط جغرافي ضيق، وبقدرات عسكرية محدودة، تعمل بنمط دفاعي ضد الاجتياحات الإسرائيلية، وضد اعتداءات المستوطنين، وليس مطلوباً منها ما هو أكثر من ذلك. يكفي أنها بثت الأمل من جديد، وأكدت لإسرائيل أنّ المعادلة التي تريد فرضها على الفلسطينيين بالقوة: «الهدوء مقابل الأمن» معادلة فاشلة، وطالما لا يوجد حل سياسي عادل وشامل ستظل المقاومة مشتعلة.
رابعاً: لم تشكل عرين الأسود وسائر المجموعات المسلحة تحدياً للسلطة الفلسطينية، كما تروّج بعض الجهات الإعلامية، فمن الناحية السياسية من مصلحة السلطة إنهاء حالة الانغلاق السياسي، الذي وضعها في عزلة، وفي وضع حرج أمام الجمهور، وهذا لا يتحقق إلا من خلال إيلام إسرائيل وتدفيعها ثمناً، فعمليات العرين وغيرها ستجبر إسرائيل وأميركا على التحدث مع السلطة، وبالتالي فتح أفق سياسي معين. وقد ظهر تأييد ودعم السلطة الوطنية لتلك المجموعات، كما دافع الإعلام الفلسطيني الرسمي عنها وأبّن شهداءها، ووصف أبناءها بالأبطال، وحتى الأجهزة الأمنية التي انخرط بعض عناصرها في تلك المجموعات، وصار واضحاً أنها تخلت عن خيار مواجهتها أمنياً، وأنها إن لم تصطفّ خلفها ومعها لن تكون ضدّها. أما حركة «فتح»، فباتت تحرص على إبراز علاقتها بها، وتعلن صراحةً الاصطفاف معها. والأمر نفسه ينطبق على «حماس» و«الجهاد» وبقية الفصائل.