المتشائل.. حكاية وطن ونفسيِّة شعب

d5ac27ef3d43cab70774aacef4bb6ff7.jpg
حجم الخط

بقلم:د. أحمد يوسف​​​​​​​

 

المتشائل تلك الكلمة دخلت قاموسنا العربي ‏ووجدت طريقاً لتوصيف حالتنا النفسيِّة في هذا ‏الوطن وما حلَّ به من مآسي ونكبات بعد هزيمة ‏العام1967.‏
المتشائل هي رواية ساخرة كتبها إميل حبيبي؛ ‏الأديب الفلسطيني عام 1974، وتدور أحداث ‏الرواية حول سعيد أبي النحس المتشائل، وهو ‏فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948، في ‏فترة الحكم العسكري الذي فرضه الاحتلال ‏الإسرائيلي على المواطنين الفلسطينيين‎.‎
وأوجد حبيبي كلمة جديدة، من خلال نحت كلمتَي ‏تفاؤل وتشاؤم، ليصوّر حالة عرب الأراضي ‏المحتلة عام 1948 وهي "التشاؤل"، التي تحمل ‏معنيَي التفاؤل والتشاؤم مندمجَين. ويطرح حبيبي ‏‏-باختصار- جدلية الأنا والآخر، ضمن الأنا ‏الفلسطينية والآخر الإسرائيلي المحتلّ، إذ يبدو أن "المتشائل" تشكِّل ‏روايةً لحال البشر عند تقاطع طرق، وكلُّ اتجاه ‏يؤدي إلى الشكِّ في الغد.‏
لم يكن حبيبي يعلم أن روايته ستأخذ طريقها إلى ‏الأدب العالمي ويتم ترجمتها إلى 13 لغة، وتحظى ‏بجوائز منحته مكانة متقدمة في عالم الرواية ‏والأدب العالمي.‏
ما يهمني هنا هو تلك الكلمة "المتشائل"، التي ‏تحولت من اسم رواية إلى حكاية وطن ونفسية ‏شعب.‏

جدلية النكبة والتشريد..‏
‏ في المرحلة التي سبقت وقوع النكبة عام 1948، ‏كان الفلسطينيون متفائلين بأن عرب الجوار ستهب ‏جيوشهم لنجدتهم والدفاع عنهم، وكسر شوكة ‏اليهود المستوطنين، الذين أخذوا بمهاجمة القرى ‏والمدن الفلسطينية، إلا أن حالة التفاؤل تلك ‏سرعان ما تحولت إلى حالة من الإحباط والشعور ‏بالهزيمة والانكسار، إذ انتهت المواجهة بحالة من ‏الصدمة والذهول أصابت الفلسطينيين مع تهجير ‏مئات الآلاف منهم إلى دول الجوار كلاجئين أو ‏نازحين في المخيمات التي أقيمت لهم بمناطق ‏داخل الضفة الغربية وقطاع غزة.‏

جدلية الهزيمة والانتصار..‏
في السنوات التي أعقبت نكبة العام 1948 ونكسة ‏‏1967، كان ميلاد الجيل الذي ولد وترعرع في ‏المخيمات، والذي انتشى ثورية ووطنية مع ‏خطابات الرئيس عبد الناصر، وتهديداته النارية ‏لإسرائيل بالويل والثبور، وتبشيره لنا بنصر مؤزر ‏قريب.. كان هذا الجيل من أبناء المخيمات قد غدا ‏شاباً يافعاً، حيث تفتحت عيناه على حالة البؤس ‏والشقاء، إلا أنه كان يعيش حالة من الحيوية ‏والتفاؤل، والشوق الكبير إلى اليوم الذي تبدأ فيه ‏معركة التحرير والعودة.‏
ومع التهديدات التي كان يعلو صوتها والموجّهة ‏لإسرائيل من دول الجوار، وخاصة مصر عبد ‏الناصر، كان منسوب الوطنية والحماس بين هؤلاء ‏الشباب من جيل النكبة يتعالى، مصطحباً بأجواء ‏التفاؤل بأن معركة الخلاص والتمكين وعودة ‏اللاجئين قد اقترب موعدها.‏
كان المحفِّز لكلِّ هذه الحالات من التفاؤل هو أن ‏العرب هم من سيخوض المعركة بعددهم وعتادهم، ‏وهم مقارنة بإسرائيل بمثابة الدولة العظمى في ‏المنطقة.‏
ومع تزايد قرع طبول الحرب وحناجر التهديد، ‏كانت حالة التفاؤل ترتفع أكثر فأكثر.‏
وفجأة؛ وقعت الواقعة، وكانت الهزيمة التي ‏حطَّمت كلَّ حُلم جميل عشناه، وتهاوت الآمال ‏بالنصر والعودة، وتلبستنا كشعب حالة التشاؤم ‏ونفسيِّة الهزيمة من جديد.‏
هنا؛ وبعد هذه الهزيمة أو النكسة المروعة، نحت ‏إميل حبيبتي المصطلح الذي عبر عن واقع حياتنا ‏النفسي، حيث لم يعد "التفاؤل" واقعاً مصاحباً لنا، ‏كما أن "التشاؤم" مع تنامي ظاهرة الصحوة ‏الإسلامية كلمة تناسب من التزموا النهج الإسلامي ‏ولا من ركبوا صهوة جواد الثورة، وعقدوا العزم على ‏مواجهة إسرائيل، واستعادة حقهم السليب في ‏فلسطين.‏
ومع ذلك، فإن ما سبق من خيبات أمل وتراجع ‏الحالة العربية في دعمها للفلسطينيين، ودخولنا ‏على خط الصراع الفكري بين ما هو إسلامي ‏وعلماني وطني جعل مشهد الفلسطيني ينحو إلى ‏ما أسماه حبيبي بـ"التشاؤل"، فلا تفاؤل مطلق ولا ‏تشاؤم مطلق، ونحن بين الحالتين تتحرك نفسياتنا ‏عاثرة بين الاحتلال ورؤيتنا للوطن.‏

جدلية المقاومة والانقسام...‏
مع تداعي حالة السنين التي تكاثرت فيها ‏المواجهات مع العدو حيناً، وفيما بيننا حيناً أخر، ‏التصقت دلالات هذه الكلمة "التشاؤل" بالحالة ‏الفلسطينية أكثر، وأصبحت حالة مرضية تتطلب ‏علاجاً فشلنا في توفيره، للخروج مما نحن فيه من ‏العجز والاكتئاب، ووضعية من يمشي مُكبّاً على ‏وجهه، متعثراً في كلِّ وجهة وقرار!! ‏
اليوم، المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية ‏يمنحنا بعض التفاؤل مع هذه العمليات البطولية ‏الفردية، والتي تُعيد فينا الأمل وتجديد الحلم ‏الفلسطيني، ولكن في الوقت نفسه فإن حالة ‏الانقسام والتشظي وغياب فرص المصالحة ‏الحقيقية تردنا إلى وضعية التشاؤم.. ومع تشرذم ‏الحالة السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ‏وافتقار "الكل الفلسطيني" للرأي السديد والحكم ‏الرشيد، تتحرك رؤيتنا الوطنية داخل فضاءات من ‏تشاؤم العقل وشيء من تفاؤل الإرادة، وإن كان ‏السياق الوطني برمته يعيش حالة من التيه، ‏وتغلب عليها أجواء "التشاؤل" وفقدان البوصلة.‏
إن أبجديات الوعي السياسي تشي إلى أن سيف ‏الحقيقة أقرب لوضعية التشاؤل، وأن ضرباته لا ‏تبدو قاتلة، فلن تحسم معركة المواجهة مع ‏الاحتلال أو تحرر الوطنَ بهذا الحال.‏
وفي قراءة سريعة لحركة التاريخ، علينا أن نفهم أن ‏عربته لا تأخذنا في رحلة للسياحة الفكرية فقط، إذ ‏إنَّ صفحاته تكتنز بالدروس والعبر، التي يتوجب ‏علينا تدبرها والإخذ بها، لرسم ملامح التحديات ‏وصناعة مستقبلٍ شعبنا وقضيتنا الوطنية.‏
باختصار.. خلال السبعة عقود الماضية، ومع ‏ماتناولناه من جدليات، كان "التشاؤل" للأسف في ‏المشهد الفلسطيني -وما يزال- هو المرآة العاكسة ‏لواقع الحال.‏