ما زلنا غير قادرين ــ على ما يبدو ــ أن نفهم مرّةً واحدة أنّ الذي يجري، والذي جرى من تحوّلات نحو العنصرية والفاشية الإسرائيلية كان سيجري على كل حال، إن لم يكن اليوم، فكان سيجري بعد سنة أو سنتين، وأنّ وصول المشروع الصهيوني إلى هذه المرحلة كان حتميّاً بفعل قوانين تطور المشروع نفسه، وبفعل ما أحدثه المشروع من تغيّرات بنيوية كبيرة في كل البنى والمصفوفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة والمجتمع على حدّ سواء.
هذه المسألة لم تعد أكثر من «مُسلَّمة»، أو هي تحولت إلى «مُسلَّمة» في الواقع، ولم يعد أي عاقل يعتقد بعكس ذلك، أو بخلاف ذلك. وبالمناسبة هذه «المُسلَّمة» ليست استنتاجاً فلسطينياً فقط، بل هي باتت «مُسلَّمة» إسرائيلية لـ»اليمين» و»الوسط» و»اليسار»، كلّ من زاويته، ومن خلفيته وأهدافه، ومن زاوية الثقافة السياسية التي يتبنّاها.
أقصد أنّ بعضنا ما زال يعتقد أن الانقلاب الذي حدث هو انقلاب انتخابي في لحظة سياسية خاصة، وقد تكون لحظة عابرة أو مؤقّتة من جهة، وأنها جاءت بسبب فُرقة وتشرذم القوائم العربية، أو قوائم «اليسار» الصهيوني أو غيرها من الأسباب وعندما نُفسّر السياسي والاجتماعي الاقتصادي، والفكري الثقافي في وجهته الاستراتيجية، وفي ما أحدثته هذه المجالات مُجتمِعَة من تحوّلات عميقة في بنية الدولة والمجتمع، وفي بنية النظام السياسي في إسرائيل.
... حينما نفسّر ذلك باللحظة السياسية العابرة والمؤقّتة، وتجلّيات هذه اللحظة «انتخابياً» فإننا في الواقع نؤكّد مرةً تلو المرة انفكاكنا عن الواقع، واستمرار «العيش» في أوهام سياسية، وربما استمرار المراهنات على أوهام كهذه، والتعلّق بها حتى ولو أنها ليست سوى قشّة تطفو على سرابٍ وليس على ماءٍ.
المسألة الانتخابية في لحظةٍ سياسية تبقى مهمة، وقد تبدو فارقة وفاصلة، لكن الأمر يصبح ويتحوّل إلى عجزٍ وفشلٍ في قراءة التحوّلات التي أفضت إلى الواقع الإسرائيلي إن اعتقدنا أن هذه اللحظة السياسية هي لحظة معزولة عن كامل سياق هذه التحوّلات على مدى عقود وعقود متواصلة.
يستطيع من يعتقد أن الأمر ليس سوى لحظة عابرة أن ينتظر على هامش الطريق، ويستطيع من استعصى عليه الفهم أن يُحضّر نفسه لانتخابات «قادمة»، ويستطيع أن يُمعِن في سرد «الصعوبات» الداخلية والإقليمية والدولية التي تقف في وجه نتنياهو، ويستطيع أن يبحث عن التوتر المنتظر في العلاقات الإسرائيلية الأميركية، والإسرائيلية الأوروبية، وغيرها وغيرها، لكن الشعب الفلسطيني ــ كما أظنّ ــ بات على قناعةٍ تامّة بأن المشروع الصهيوني بات واضحاً وعارياً، ولم يعد بحاجةٍ إلى الظهور إلّا بمظهره الحقيقي، ولم يعد مستعدّاً للمناورة، وهو يرى أن ساعة الحسم قد اقتربت لكي «يُصفّي» المشروع الصهيوني كل «حساباته» مع حقوق الشعب الفلسطيني، وأهدافه، بل ووجوده، أيضاً، عند درجةٍ معيّنة، أو في لحظةٍ سياسية مناسبة.
وعندما نقول: الشعب الفلسطيني، فإننا نقصد الشعب كلّه، بدءاً من «الداخل» الفلسطيني، ومروراً بالضفة والقطاع، وانتهاءً بالشتات في كل بقعة من هذا العالم.
هذه هي القناعة الراسخة الأهمّ التي أفرزتها «اللحظة السياسية العابرة، واللحظة الانتخابية» التي عايشها قبل عدة أيام فقط.
إليكم بالملموس ماذا يعني ذلك في سؤال: ما العمل؟
هل بالإمكان أن نتحدث عن «الحق بالمساواة» في ظل واقعٍ سياسي كهذا؟، وهل بالإمكان أن نفصل ما بين هذا الحق، والحقوق الوطنية الأخرى؟، وهل تحول هذا الحق، بما في ذلك ــ الحقوق الوطنية، إضافةً إلى المدنية ــ إلى الوجه الآخر للديمقراطية أم لا؟
الحق بالمساواة، وفصل المدني عن الوطني، وفصل كل ذلك عن الديمقراطية ليس سوى أسرلة مُعلنة، وليس بإمكانها سوى أن تكون كذلك، خصوصاً أن الديمقراطية كما تعلن عن نفسها وبالقانون هي ديمقراطية تخص اليهود أولاً، والدولة هي دولة اليهود، وحق تقرير المصير حصري باليهود، وكل من هم من خارج هذا الدين أو الإثنية ليسوا سوى «أغيار» أو هم من لا يحق لهم التمتع بالمواطنة الكاملة من حيث المبدأ، وكل ما يحق لهم (التمتّع) به مشروط ومقيد بشروط وقيود عنوانها الأكبر والأهمّ هو عدم (التمتع) بأي حقوق سياسية أو وطنية!
ماذا يعني ذلك سوى الأسرلة؟
هذا بالنسبة لأهلنا في «الداخل». فهل نتوقع تحت أي ظرفٍ من الظروف أن يكون لأهلنا في المحتل من أرضنا أي حقوق على الإطلاق سوى الخنوع التام، والقبول بالعيش تحت هيمنة الاحتلال وسطوته وسيطرته الكاملة على الأرض وما تحتها وما فوقها، باعتبارها أرض الشعب اليهودي «المختار»، والمالك الحصري لها، وصاحب السيادة عليها بـ»الوعد الإلهي» الذي لا يقبل الجدل أو النقاش أو الشكّ، لأن من شأن كل ذلك أن «يُقوّض» المشروع الصهيوني، والدولة الصهيونية، والمجتمع الصهيوني، كما باتت تعتقد أكثرية متزايدة في إسرائيلّ؟!
وعند الحديث عن الشتات فحدّث ولا حرج، ولا يحتاج الأمر إلى أي نقاشٍ من أي نوعٍ كان!
لا يوجد مشروع اسمه السياسي «دولة فلسطينية»، ولا يوجد مشروع اسمه «الدولة الواحدة»، كما نتوهّم، ولا يوجد مشروع اسمه «الدولة الثنائية القومية»، بالنسبة للمشروع الصهيوني، كما بات يتجسّد على الأرض، ولا يوجد «دولة ديمقراطية» كما هو واقع الدولة الإسرائيلية، ولا يوجد مجتمع يهودي إسرائيلي على قناعةٍ سياسية مغايرة، وأكثر ما يوجد على هذا الصعيد هو وجود «شكوك» معينة لدى فئات صغيرة، ومتناهية الصِّغَر في إطار مجتمع كهذا.
تصفية حقوق الشعب الفلسطيني هي عنوان المرحلة الجديدة، وهي الهدف المباشر على جدول الأعمال، والإجهاز على القضية الفلسطينية من كل جوانبها بات الهدف المعلن في الحملات الانتخابية الأخيرة لكل «اليمين» في إسرائيل، ولكن بقيادة الفاشية هذه المرّة، وهو الهدف المسكوت عنه في كل أوساط «الوسط» من «يمينه» إلى «يساره»، وهو الهدف الذي كشف عن تواطؤ «اليسار» الصهيوني بشأنه.
تصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها تعني قبل كل شيء فصل وتشتيت وتفتيت الشعب الفلسطيني، والتعامل مع كل «جزء» منه حسب الظروف والإمكانيات بهدف واحد ووحيد وهو «نزع» الطابع الوطني والسياسي عن وجوده المادي، على طريق تهديد هذا الوجود المادي نفسه إذا فشلت خطة التجزئة والتشتيت والتفتيت، وإذا فشلت خطة إخضاع وجوده المادي، ونزع الطابع الوطني والسياسي عن هذا الوجود.
ولهذا فإن وحدة الشعب الفلسطيني هي الحرف الأول، في الكلمة الأولى، في السطر الأول، في الصفحة الأولى من برنامج مجابهة مشروع التصفية، وهي الردّ الأول على هذا المشروع.
وإذا كان الأمر يتعلق بوحدة الأرض، والهوية والحقوق، فإن وحدة الشعب هي قاعدة الارتكاز وحجر الزاوية في كل هذا.
أقصد أن وحدة الشعب الفلسطيني ليس بالمعنى التنظيمي والإجرائي وغيره من أشكال الوحدة، على الأهمية الكبرى والقصوى لهذه الوحدة، وإنما وحدة المنطلق السياسي والبرنامجي التي تحول القضية الوطنية إلى قضيةٍ واحدة.
وإذا كانت هذه القضية عصيّة على الفهم سابقاً، فإن المشروع الصهيوني، وما وصل إليه من تحوّلات باتت تتجسّد في الواقع أصبحت تحتاج إلى أكبر عملية تحوّل في برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاقة حركة فتح وحتى يومنا هذا.
أي أن المشروع الصهيوني أعاد الواقع السياسي إلى المربّع الأول، وهو مربّع الفكر الديني القومي، العنصري والفاشي بعد أن هُزم وإلى غير رجعة المشروع العلماني المراوغ، والمشروع الليبرالي الزائف.
وأصبح إسقاط النظام السياسي العنصري والفاشي الجديد هو المدخل الوحيد للدخول في دائرة ومساحة حق شعبنا كلّه في تقرير مصيره على أرضه، كل أرضه، ولم يعد أمامنا سوى هذا النهج وهذا الطريق، وهنا لنا عودة مُفصّلة.