كتبت الأقلام الكثير من الكلام عن القمة العربية في الجزائر، وما يزال هناك وفرة في مِداد القراءات والتحليلات التي تأخذ طريقها على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمجلات، وإن كان هناك حالة من الإجماع مبنيَّة على حسابات القمم الثلاثين السابقة، مفادها "لا خير في كثير من نجواهم"، وهي ليست أكثر من لقاءات للثرثرة وقليل من منطوق الحكمة والقرار.
الجزائر مشكورة بذلت من الجهود الكثير قبل القمة، بهدف "لمِّ الشمل الفلسطيني"، وأمَّنت من القمة العربية من المواقف الداعمة لاستكمال تطلعاتها في تحقيق ذلك.
لقد اجتهدت الجزائر في رعايتها للقمة العربية أن تمنح القضية الفلسطينية المكانة المركزية في اهتمامات الأنظمة العربية، وأن تعيد لهذه القضية -شبه المنسية- حضورها في الوجدان العربي، الذي أنهكت دوله المشاحنات وحالات الصراع القائمة فيما بينها.
وما بين "لمّ الشمل" الفلسطيني و"لمّ الشمل" العربي تحديات كبيرة تنتظر الجزائر. نعم؛ قد يبدو الرئيس عبد المجيد تبون والقيادة السياسية في الجزائر طامحين في إنجاز جهود "لمّ الشمل" هذه، إلا أنَّ الكثير من هذه الأنظمة العربية تلهث -للأسف- خلف مصالحها وارتباطاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية بهذا التحالف أو ذاك، والتي قد تحول دون وصولها إلى "نقطة التقاء" في منتصف الطريق، والتي إن تمت قد تُسهم في خدمة قضية الأمة المركزية (فلسطين)، التي تداعت على تجاهلها وهجرانها الكثير من الأمم.
إنَّ عملية "لمّ الشمل" الفلسطيني هي مسؤولية الفلسطينيين بالدرجة الأولى، ومن يمثلهم من فصائل منظمة التحرير وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وقبل كلّ هؤلاء جميعاً الرئيس محمود عباس (شيخ القبيلة وقبطان السفينة) على وجه الخصوص.
تأتي الجزائر بتعهداتها مع الجامعة العربية ثانياً، حيث وعدت بتشكيل لجنة عربية لمتابعة ما تمَّ الاتفاق عليه في (إعلان الجزائر) للمِّ الشمل الفلسطيني الذي سبق القمة بعدة أسابيع.
إن التحدي الذي ينتظر هذه اللجنة هو مدى قدرتها على إقناع الطرفين (فتح وحماس) بما جرى التوقيع عليه والتعهد بالالتزام به من إجراءٍ للانتخابات التشريعية والرئاسية.
لا شكَّ أن الجزائر ستوفر إمكانيات مالية ولوجستية ودعم دولي لتقليل فرص التهرب وذرائع الاحتجاج من هذا الاستحقاق الانتخابي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى استجابة الطرفين (فتح وحماس) لتقديم تنازلات تُشجِّع كلٍّ منهما على خوض التجربة من جديد دونما تهديد أو وعيد بالإفضاء أو الشطب من الحياة السياسية، مع تعهدات وضمانات بالبقاء ضمن الشراكة الوطنية في حسابات الحكم والسياسة.
إنَّ إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية أو التشريعية ثمَّ الرئاسية ليس فقط هو المدخل لرأب الصدع وتحقيق المصالحة الفلسطينية، بل هو الطريق لوضع رؤية استراتيجية لمستقبل هذا الصراع مع إسرائيل، بحيث تتحمل دول المنطقة مسؤولياتها التاريخية والقومية والدينية والأمنية في السياق الذي ترتسم فيه معالم خريطة الوجود الفلسطيني، وشكل الدولة التي يتمثل فيها هذا الوجود.
بالمختصر المفيد، عندما يتعلق الأمر بالشأن الفلسطيني، فلن ينجح أحدٌ بالمزايدة على الجزائر -رئاسة وحكومة وشعباً- في صدقية مواقفها تجاه فلسطين وأهلها، وصفحات التاريخ تقف بالمرصاد لكلِّ من يحاول العبث أو التشكيك في ذلك، حيث إنَّ كيمياء العلاقة بين الشعبين ا(لفلسطيني والجزائري) التي شكلتها تجارب المواجه المسلحة مع الاحتلال الفرنسي والصهيوني، بما يمثلانه من توجهات استعمارية استيطانية، قد عززت من وشائج تلك العلاقة وارتباطاتها العروبية والدينية والأخلاقية.
وعليه؛ فإن على حركة حماس أن لا تعطي أية ذرائع لإخواننا في حركة فتح للتهرب من استحقاقات المصالحة، والاستقواء بفصائل العمل الوطني والإسلامي، والتي غدت شريكاً في حوارات المصالحة وترتيبات الخروج من نفق الانقسام والتشظي.
إن قادم الأيام يحمل في طياته مواجهات شرسة مع حكومة إسرائيلية تمثل أقصى اليمين، يقودها نتانياهو وبن غفير، حكومة تضع على رأس أولوياتها الاستيطان وتهويد المسجد الأقصى بالتقسيم الزماني والمكاني، ولا ترى حلاً للفلسطينيين في أية سياقات وطنية من خلال حلِّ (الدولة الواحدة-ثنائية القومية) ولا (حلّ الدولتين)، والخيار الذي تروج له هو (الأردن- الوطن البديل)!! وعلى قطاع غزه أن يتدبر أمره في اتجاه العلاقة مع مصر أو البقاء كمستطيل محاصر يستجدي هذا الطرف أو ذاك.
إنَّ علينا كفلسطينيين أن نتلمس طريقنا وحدنا، لأن الوقوف طويلاً وبلا رؤية وصيرورة مسار عند "مفترق الطرقات"، سيجعل العجز والاستسلام خياراً يُفرض علينا حتى حين.
إن استمرار مسيرتنا لأكثر من سبعين عاماً داخل نفق البحث عن المصير، وبانتظار رؤية الضوء وفضاء الظل، قد انهكتنا وأثقلت كاهلنا، حتى مع مشاهدة تضحيات الأبناء والأحفاد في ملاحم البطولة والاستشهاد.
ما تزال مسيرة النفق طويلة ومكبلةً بعتمة ليل بهيم، وكلما أخذتنا بعض النسائم، ظننا أن هناك ضوءا في نهاية النفق.. ولكن تأتي المفاجأة: نفقٌ آخر يلوح في نهاية الضوء!!
ما تزال الحرب في أوكرانيا تُشدُّ لها الأنظار، وتُجمع لها الحشود والموارد، وهذا ما يجعل المظلومية الفلسطينية بعيدة عن الأنظار ولا تُشدُّ لها الرحال، وهو ما سيشجع نتانياهو وبن غفير للتجرؤ في استمراء وضعية الضعف وواقع التشرذم الذي عليه الحال.
إذا كان إعلان الجزائر ومباركة القمة العربية قد منحتنا شمعة مضيئة داخل النفق المظلم، فإن عودة رياح التطرف العاتية للسياسة الإسرائيلية سرعان ما ينطفئ معها الأمل بفرج قريب، وهذا ما يفرض على فتح وحماس تقاسم التبعات وتقديم كل ما يلزم من تنازلات تخدم المصلحة الوطنية وتنزع ذرائع مهندسو الاتهامات لهذا الطرف أو ذاك.
ختاماً.. إن لم تنجح المصالحة هذه المرة، فهنيئاً لنتانياهو وبن غفير
للمضي قُدماً فيما يخططون له من سياسات الترانسفير!!