صعود أقصى اليمين الإسرائيلي: الخلفية والإسقاطات (1-2)

حجم الخط

بقلم: د. هنيدة غانم



أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية حصول معسكر بنيامين نتنياهو على 64 مقعداً، حيث حصل حزب "الليكود" على 32 مقعداً، وحصل حزب "شاس" على 11 مقعدا، وحصل حزب "يهدوت هتوراة" على 7 مقاعد، فيما حصلت قائمة "الصهيونية الدينية" على 14 مقعدا، وتحولت إلى ثالث أكبر حزب في إسرائيل.
وتتشكّل "الصهيونية الدينية" من تحالف التيار الاستيطاني الحردلي، بزعامة بتسلئيل سموتريتش، وهو أكثر التيارات الاستيطانية تطرفا ويدمج معا ما بين التزمت الديني (الحريدية) والتزمت القومي، وما بين التيار الكهاني، الذي يتزعمه إيتمار بن غفير، وحزب "نوعم" المتشدد. بالمقابل، حصلت المعارضة على 56 مقعداً، علما أن حزب "ميرتس"، الذي يمثل اليسار الصهيوني، لم يجتز نسبة الحسم، كما اجتاز حزب العمل نسبة الحسم بصعوبة ولم يحصل إلا على 4 مقاعد. ويشكل المحور الذي يجمع تيارات اليمين المختلفة الراديكالية والمتطرفة والمحافظة والدينية الادعاء بأن مشروع الصهيونية المركزي ما زال غير مكتمل، وأن إتمامه يتم فقط من خلال استكمال السيطرة على "أرض إسرائيل" وسحق المسألة الفلسطينية.
تأتي نتائج الانتخابات هذه بعد عقد ونيف من حكم اليمين الجديد بزعامة بنيامين نتنياهو، الذي توقف مدة عام في ظل حكومة التغيير، والذي يتميز بنزعته الشعبوية والسلطوية وبالتحريض المثابر على الفلسطينيين، والدفع باتجاه تزحيف الضم وترسيخ الفوقية اليهودية، وتحوصل نتائج الانتخابات عملية الانزياح المستمر والمثابر للمجتمع الإسرائيلي باتجاه أقصى اليمين واليمين الشعبوي وتطبيع التطرف.
في هذه المقالة، سأحاول تتبع العوامل والسيرورات التي دفعت نحو تصاعد قوة أقصى اليمين المستمرة وتصدره المشهد السياسي، وذلك عبر الحفر في البعد الفكري والسوسيولوجي وتفاعلهما في التقاطعات التاريخية. ويحاجج المقال بأن أقصى اليمين الجديد هو جزء من سيرورة التطور الجدلي للصهيونية وتجاوز لها في ظل التحولات التي شهدتها إسرائيل على امتداد سبعة عقود ونيف، ومن التفاعل المستمر ما بين العامل الذاتي في الصهيونية وبنيتها القيمية والفكرية القائمة على علمنة الثيولوجيا الدينية والعامل الموضوعي المتغير الذي يرتبط بالتغيرات الجيو - استراتيجية والذي أفرزه احتلال 1967 وبالتحولات الفكرية في الصهيونية الدينية وتقاطعها مع التغيرات الديمغرافية في مجتمع المستعمرين التي أدت إلى انهيار هيمنة المؤسسين وصعود قوة الجماعات اليمينية والدينية والاستيطانية وتصدرها المتصاعد لمقود المشروع الصهيوني ودفعه نحو تحقيق المشروع الخلاصي على هدي تصوراتها الدينية.


العامل الذاتي
يحيل العامل الذاتي إلى الأفكار والقيم والتصورات التي تشكلت على أساسها الصهيونية، والتي تمت من خلالها صياغة الوعي الجمعي وروح الأمة والهوية القومية، وعلى أساسها وضعت المشاريع السياسية والأيديولوجية لتحقيق فكرتها للدولة القومية. في هذا الإطار، شكلت علمنة الدين اليهودي، وتحويل القصص التوراتية إلى قصص تاريخية موضوعية محور الأيديولوجيا القومية الصهيونية، واستعانت فيها لتبرير مشروعها الاستعماري في فلسطين.
بمجرد انبنائها على علمنة الدين وعلى التحقق عبر أدوات الاستعمار انطوت الصهيونية في لحظة تشكلها، بحسب أمنون راز ــ كركوتسكين (1)، على بذور أبوكاليبتبية، إذ بتحققها على أرض مسكونة كانت الصهيونية تحمل خراب حاضر فلسطين وسكانها، وبتشكلها على أساطير دينية معلمنة كانت تحمل في طياتها بذور تحولها لأصولية دينية وقومية متمادية.
اعتقد مؤسسو الصهيونية ومنظروها أنه عبر تأسيسها على مبادئ العقلانية الغربية العلمانية ستكون الصهيونية قادرة على ترويض الأساطير التي استقدمتها من الحقل الديني وإخضاعها لحساباتها والتحكم بها، وبحسب أمنون راز - كركوتسكين ظن هؤلاء أنه يمكن للصهيونية أن تستعيد المشهد التوراتي بجزئيته التي تناسبها، وأن تتوقف في النقطة التي تريدها، أي أن تحقق "الخلاص" بجزئه السيادي دون أن تحققه كاملا، أي "أن تعيد بشكل غير مباشر العملية التاريخية - احتلال البلاد (يهوشع)، الاستيطان والترسخ (القضاة) والمملكة (خاصة شاؤول) وأن تتوقف في هذه النقطة" (2). لم يكن مشروع بناء الهيكل أو إقامة دولة شريعة يهودية هو هدف الصهيونية المؤسسة، بل إقامة الدولة القومية التي تخيلها هرتسل علمانية غربية حديثة أوروبية، وعلى الرغم من أنه أشار إلى الهيكل الذي يسميه هيكل السلام فإنه لم يتوقف عنده إلا للإشارة إلى أنه سيبنى داخل أسوار المدينة بجانب بقية الأماكن المقدسة (3). وعلى الرغم من ذلك، أدرك عدد من منظري الصهيونية العلمانيين أن الثيولوجيا السياسية الصهيونية تنطوي على شحنة مسيانية خطرة يمكنها أن تحول الصهيونية وتسيطر عليها، وأقلق هذا عدداً من قياداتها. وبحسب المؤرخ موطي جولاني، عبّر حاييم وايزمان عن رفضه الحاد لقيام حزب المزراحي الصهيوني - ديني خوفا من أن يصادر ما اعتبره السيادة من الإنسان ويعيدها للرب (4). أما الفيلسوف المتخصص بالقابلاه اليهودية غرشوم شالوم فكتب في رسالة موجهة إلى فرانز روزنزفايغ عن المخاطر التي تنطوي على علمنة اللغة العبرية "المقدسة" (5): غالباً ما نتحدث هنا عن أشياء كثيرة قد تفشلنا، ويتم الحديث عن العرب، اليوم، كثيرا. لكن خطراً آخر أشد خطورة من العرب يتهددنا، خطر لا محالة استجلبته المهمة الصهيونية. ماذا ستكون نتيجة عصرنة العبرية؟ ألن تفتح فوهة الهاوية للغة المقدسة التي غرسناها بين أبنائنا؟ في الواقع، الناس هنا لا يعرفون معنى أفعالهم. يعتقدون أنهم حولوا العبرية إلى لغة علمانية. إنهم نزعوا عنها مركبها الأبوكالبتي. لكن هذه ليست الحقيقة. ويضيف: "ألن تنفجر في يوم من الأيام القوة الدينية المخزونة بها، ضد متحدثيها؟ أي شكل سيكون للجيل الذي ستوجه إليه تعابيرها؟ إننا نعيش في هذه اللغة على فوهة الهاوية، كلنا نمشي بثقة عمياء. ألا يوجد خوف من أن نتدهور نحن أو القادمون بعدنا إلى داخلها، حين تتفتح العيون".
وبحسب الباحث في الصهيونية الدينية تومر برسيكو لم يكن بن غوريون: "يريد جبل الهيكل، وكذلك أيضا بقية القيادات الصهيونية. لقد اعتقد هؤلاء أن المدينة القديمة ليست سوى خراب يحتوي على مخزون طاقة للإشعاع الديني. وأراد بن غوريون التخلص منها بتقسيم المدينة إلى شرق وغرب". وحين عارض التقسيم التيار التصحيحي في 1937 تحت شعار عدم التنازل عما يعتبره جبل الهيكل اعتبر الأمر كارثياً وكتب مدافعا عن التقسيم: "أورشليم يهودية محررة من الشراكة المقيتة مع الأفنديات والموظفين الإنكليز، منقطعة عن البلدة القديمة التي لا علاج لها إلا بتحويلها إلى متحف ثقافي وروحي وديني لجميع الأديان، ومعفاة من الأحياء العربية التي ستحفز مواهبنا الإبداعية الحضارية، وتركز ثروتنا وكياننا"(6).
من الصعب أن نحكم إن كان موقف بن غوريون نابعاً من حسابات برغماتية أم من مخاوف حقيقية من الشحنة المسيانية الدينية، إذ إن ما كتبه لابنه عاموس من أجل إيضاح موقفه من الموافقة على التقسيم يكشف جانبا مختلفا فيه يعبر عن أن الموافقة هي مناورة للحصول على ما يمكن حتى يتمكن من تحقيق كامل "أرض إسرائيل"، لكن المؤكد أن بن غوريون استخدم خطابا ساخرا من البلدة القديمة ككل واعتبر أن الإصرار على السيطرة عليها يحتوي على إمكانيات كارثية على المشروع الصهيوني. خلال العشرينيات من القرن الماضي ومع تشكل التيار التصحيحي أصبح بناء الهيكل الثالث بمثابة التعبير الملموس عن استعادة التاريخ القومي والسيادة الكاملة على الأرض، ذلك أن السيادة اليهودية على أرض إسرائيل بحسب الموروث اليهودي وكما يشير برسيكو لا تقاس فقط بإقامة "المملكة"/الدولة بل أيضا بإعادة إقامة الهيكل وحكم ملكي من سلالة داوود.
هكذا بدأت الفكرة الصهيونية عن السيادة القومية والدولة اليهودية تكتسب طبقات إضافية مستمدة من تفاسير جديدة لمعنى السيادة والخلاص التي تمحورت حولها، إذ إن "الهيكل" الذي لم يكن محور مشروعها أو على الأقل كان هامشه أصبح جزءاً مركزياً في تنظير التيارات اليمينية التصحيحية، وحولت شخصيات مثل أبا أحيميئير والشاعر تسفي غرينبرغ الذين شكلوا "حركة البلطجية" موضوع "الهيكل" إلى جزء من ممارستها الطقوسية التي انعكست في نفخ البوق كل سبت بالقرب من الحائط الغربي للحرم، أما أبراهام شطيرن، زعيم التنظيم الإرهابي الليحي، فوضع بناء الهيكل في كراسة "أساسيات النهضة" والتي اعتبرت بمثابة دستور ونشرت في 1941، شملت الكراسة 18 نقطة ضرورية لانبعاث الأمة اليهودية. وجاء في بندها الثامن عشر والذي يختم دستورها: بناء الهيكل الثالث كرمز لعصر الخلاص الكامل" (7-8).
بالمقابل، لم يكن موضوع بناء الهيكل جزءا من خطاب التيار الصهيوني الديني الذي أقامه الحاخام يعقوب راينس وانضوى تحت مظلة المزراحي وشارك في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، إذ إن راينس أسس دعمه للصهيونية على مبررات علمانية بحتة، واعتبر الصهيونية أداة لحل المشكلة اليهودية وخلاص اليهود من معاداة السامية والمجازر التي يتعرضون لها خاصة في أوروبا الشرقية، وفصل راينس فصلا مطلقا بين الصهيونية والخلاص الديني، وكان ممن دعموا مقترح إقامة الدولة اليهودية في أوغندا (9)، ولم تكن "أرض إسرائيل" تشكل بالنسبة له هدفا بل مجرد أداة ووسيلة، ولم تحمل الدولة اليهودية فيها أي معنى ديني أو قداسة بل معاني علمانية مجدولة بعقلانية موضوعية.
لم يستمر الفصل الذي أراده راينس بين الخلاص الديني والعلماني كثيرا وسرعان ما تحققت مخاوف شالوم بحذافيرها، وبدأ المقدس ينفلت من عقال اللغة المعلمنة ويحوّل الأساطير إلى مرجعية سياسية، وبدأت تصعد في التيار الديني أصوات جديدة ترفض الفصل بين المجالين وتدفع إلى إعادة تفسير العلاقة القائمة بينهما، وجاء التحول الفكري الأساس في الصهيونية الدينية مع صعود قوة الحاخام أبراهام يتسحاق هكوك (1865-1935) الذي كان الراف الأشكنازي الأول في فترة الانتداب، ومن أسس يشيفات هراف في القدس في 1924، على خلاف الراف راينس، أعطى الراف كوك المشروع الصهيوني طابعا خلاصيا دينيا واعتبر أن الصهيونية حتى في صيغتها العلمانية هي تعبير وجزء من الخطة الربانية لتحقيق الخلاص المسياني، ورأى في الصهيونية رغم علمانيتها بداية الخلاص (اتحلتا دي غيئولا) واعتبر أن الدولة هي حالة تسام ربانية تتحقق من خلالها الإرادة الإلهية على الأرض، وأضاف: إنه في هذه الدولة لا مكان للعلمانية، ذلك أن إقامة العلاقة بين العالم الإلهي والدهري هو أساس وجودها (10). واستمر في تطوير وتوسيع البعد الديني الخلاصي الابن إسحق هكوك (1891-1989) الذي تحول إلى الأب الروحي والقائد الملهم للصهيونية الاستيطانية. ترأس الابن كوك مركز يشيفات هراف التي أقامها والده، ودفع من خلال دوره إلى التثقيف والترويج لصهيونية خلاصية دينية يلعب فيها شعب إسرائيل دورا مقدسا في تحقيق إرادة الرب وتسريع مجيء المسيح، وتحول مركز الراف بعد احتلال 1967 إلى خط الإنتاج المركزي لقيم الصهيونية الاستيطانية التي تمردت على قيادات المفدال وعلى يوسف بورغ الذي كان من أتباع تيار راينس ويشارك في الائتلافات الحكومية مع حزب مباي بشكل دائم ويصنف كأحد الشركاء الطبيعيين معه قبل أن يستكمل تيار كوك السيطرة على المفدال ويتحول إلى التحالف مع الليكود ويسهم معه بالانقلاب العام 1977.
حتى حرب 1967 كانت الدولة اليهودية التي أقيمت على خرائب الوجود الفلسطيني وتهيمن عليها حركة مباي، تعكس تحقق الصهيونية بصيغتها الغربية - علمانية استعمارية، وكانت القوة السياسية المهيمنة قادرة على إقامة الفكرة القومية وفق دين مدني يوظف الأسطورة الدينية ويتبعها لمشروعه السياسي، وأسهم في قدرتها على الهيمنة تبني حزب المفدال (وريث المزراحي) بقيادة يوسف بورغ خط يعقوب راينس السياسي في الفصل بين الخلاص الديني والدولة الصهيونية وتبنيه إثر ذلك خطا سياسيا براغماتيا(11) يرتكز على الاهتمام بالتشريعات المرتبطة بشهادات الحلال والقيم والتعليم اليهودي، وكانت التيارات الحريدية التي كانت رافضة أصلا وبشكل قطعي للصهيونية قد أقامت علاقتها مع إسرائيل بعد إقامتها على الفصل القاطع ما بين الأخيرة والخلاص الديني ونظمت علاقتها مع الدولة على أساس توافقي إثر رسالة الستاتوس كفو لبن غوريون الذي التزم عبرها إعطاء التيار الحريدي نوعاً من الحكم الذاتي وذلك ليضمن عدم معارضته لإعلان الدولة، فيما كان التيار القومي اليميني الذي مثلته حيروت حركة معارضة لا تتمتع بقوة تنفيذية.
في هذا السياق، كانت مشاريع "الهيكل" و"أرض إسرائيل" بمثابة أفكار مؤجلة إما بحكم فصل الخلاص الديني عن العلماني أو بحكم الجغرافيا. لكن التغير الاستراتيجي في الخارطة الجيو - سياسية في أعقاب 1967 والتحولات الاجتماعية الفكرية في تيار الصهيونية الدينية الذي أدى إلى بروز جيل جديد يتبني تنظيرات الراف كوك بدل راينس، زعزع هيمنة الصهيونية المؤسسة بزعامة "مباي" وشكل منعطفا حاسما ولحظة تحول بارادايمية في تطور المشروع الصهيوني وإعادة تديين قيمه القومية المعلمنة حول الخلاص وقداسة أرض إسرائيل، والدفع باتجاه تحويل ما كان هوامش الصهيونية من صهيونية دينية كوكية (نسبة للراب كوك) ويمينية تصحيحية قومية (حيروت/الليكود لاحقا) إلى مركز الحقل السياسي.


احتلال 1967 كنقطة تحول بارادايمية
تمخض احتلال الأرض الفلسطينية العام 1967 عن صيرورتين مركزيتين: الأولى صعود القومية اليمينية والثانية إطلاق الشحنة المسيانية الدينية الصهيونية. مع احتلال 1967 تحول مشروع اليمين التنقيحي القومي الأرض إسرائيلي "المؤجل" بحكم الجغرافيا إلى مشروع قابل للتحقق، وانتقلت الصهيونية الدينية نحو إعادة تأصيل الأساطير المعلمنة على أسسها الدينية، وتقاطع الاثنان على أخذ الصهيونية نحو أقصاها كل بحسب تصوراته لنقطة النهاية التي يعتبرها نقطة بلوغ الكمال، وتزامن هذا التحول مع تآكل هيمنة التيار المؤسس الصهيوني لمباي على خلفية التحولات الديمغرافية العميقة وظهور نخب وتحالفات جديدة.
خرجت من رحم الصهيونية الدينية من كلية الراف المتأثرة كما أشرنا بتنظيرات الراف كوك الأب والابن طلائع حركة الاستيطان "غوش إيمونيم" التي تمردت على القيادة التقليدية للمفدال. خرجت هذه المجموعة وهي مسلحة بكل القيم الصهيونية الدينية المعلمنة عن "الطلائعية" و"الاستيطان" و"خلاص الأرض" و"اليهودي الجديد" لتعيد استكمال المشروع الخلاصي ليس كمشروع سياسي معلمن بل كمشروع سياسي ديني ذي طابع مقدس، وقلبت بذلك الأدوار التي وضعتها الصهيونية الأم من مشروع سياسي يخضع الثيولوجي لتصوراته إلى مشروع ثيولوجي يخضع السياسي لصهيونيته.
جدلت غوش إيمونيم، التي انطلقت غداة حرب أكتوبر 1973، مشروع الاستيطان بمفردات دينية توراتية وجاء في ندائها "أرض إسرائيل تناديكم" الذي نشرته بالصحف مقطع من سفر التثنية "ويكون أنك تأتي إلى الأرض التي أعطاك إياها الرب إلهك نصيبا، وترثها وتسكن فيها"، وأطلقت على مشروعها تسمية توراتية - هتنحلوت - نحلا/ ورثة، وذلك خلافا لمفردة هتيشفوت - التي استخدمت ما قبل 1948 لوصف المستعمرات اليهودية، وهكذا استعاد المستوطنون المفهوم الديني للخلاص من الصهيونية العلمانية التي وظفته وأعادوه إلى أصله الأول على سكة الخلاص الرباني الذين هم أدوات تحققه.
انعكس هذا التحول في الممارسة الاستيطانية على الأرض وفي بداية تفكك "التحريم" الديني الشامل على دخول باحات المسجد الأقصى الذي بدأ خجلا ثم تحول إلى ممارسة نشطة واسعة تحظى بشرعية مجتمعية كبيرة. بدأ التفكك مع اللحظات الأولى لاحتلال القدس، إذ كان من بين الشخصيات التي رافقت كتيبة المظليين التي احتلت البلدة القديمة داخل أسوار القدس الحاخام العسكري للجيش شلومو غورن الذي تردد وتخبط بحسب عدة شهادات بكيفية التصرف تجاه الحرم الشريف الذي يشكل بحسب الموروث الديني اليهودي مكان جبل الهيكل. بحسب عوزي بنزيمان الصحافي الإسرائيلي مرّ الحاخام غورن بتخبطات شديدة مع دخوله أسوار البلدة القديمة حول سؤال بناء الهيكل وسؤال السماح لليهود بدخول باحات الأقصى وحتى سؤال تفجير المسجد في باحاته. ونقل نداف شرغاي في كتابه "جبل المنازعة" شهادات عن أن الحاخام فكر جديا بإمكانية تفجير المسجد وشارك أفكاره مع قيادات الجيش حول ذلك (13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أمنون راز كركوتسكين، 2022، وعي المشناة، وعي المكرا، https://www.e-vrit.co.il/product.aspx?pid=26147&

(2) أمنون راز - كركوتسكين، م. س

(3) جاء في رواية هرتسل "ألتنويلاند": لقد أصبحت أورشليم كياناً ضخماً ينبض حيوية. إن المدينة القديمة بين الأسوار والتي يظللها وقار الشيخوخة، لم تتغير كثيراً، كما استطاعا أن يتبينا من أعالي الجبل. فمن هنا بدت لأنظارهما كنيسة القبر المقدس، ومسجد عمر، وسائر القباب والأسطح التي كانت تقوم هنا في السابق، وقد أضيف إليها عدد من المباني الفخمة. فذاك البيت الواسع الفخم مثلاً هو "هيكل السلام: وقد خيم الأمن على البلدة القديمة وسادتها الطمأنينة"، بنيامين زئيف هرتسل، 1968 [1902] أرض قديمة جديدة (ألتنويلاند، ص177)، ترجمة مئير حداد: تل أبيب.
(4) موطي غولاني.2014. "متى انتصرت المسيانية على الصهيونية"، هآرتس، June 27،2014 https://www.haaretz.co.il/israelpeaceconvention/2014-06-27/ty-article/0000017f-e786-dea7-adff-f7ff801b0000.
(5)فرانز روزنسفايغ .1989. إعلان الولاء للغتنا، تل أبيب: عام عوفيد، ص 59-60
(6)تومر برسيكو، 2022. "جبل الهيكل هو النقطة الأخيرة للصهيونية"، هآرتس 22.6.2022: shorturl.at/bwEGV
(7) أبراهام شطيرن (بدون تاريخ) مبادئ النهضة https://benyehuda.org/read/197.
(8) تومر برسيكو. 2022. "لماذا لا يمكن للصهيونية الدينية من دون ولا مع جبل الهيكل"، مدونة تومر برسيكو https://tomerpersico.com/tag/%D7%90%D7%91%D7%90-%D7%90%D7%97%D7%99%D7%9E%D7%90%D7%99%D7%A8:” accessed September 20، 2022،
(9)عميت ناؤور، 2020. حين دعم الراف راينس خطة أوغندا، بلوغ المكتبة الوطنية الإسرائيلية، ית، February 1، 2020، https://blog.nli.org.il/chov-reines-uganda/.

(10) تومر برسيكو، 2022. "صعود وسقوط غوش إيمونيم، أو سقوط المحاولة اليهودية الأخيرة لمعارضة عملية العلمنة،accessed October 20، 2022 https://tomerpersico.com/2017/06/23/gush_secularized/.
(11) مهند مصطفى (يصدر قريباً)، الصهيونية الدينية وتحولاتها، هنيدة غانم (محررة)، أقصى اليمين الجديد. المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار.
(12) أمنون رامون.1997. موقف دولة إسرائيل والجمهور اليهودي على تياراته من جبل الهيكل (1997-1996) ص. 4 معهد القدس لبحث الصهيونية.
(3) نداف شرغاي،1995، جبل المنازعة/، إصدار كيتر. ص(29-30)