بعد ظهور نتائج انتخابات الكنيست الخامس والعشرين، ونجاح أحزاب اليمين الديني والقومي، بما فيها أكثرها تطرفاً، في اكتساح غالبية مقاعده، باتت عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة حكومة إسرائيل، أمراً مؤكداً، وبات السؤال الذي يشغل اهتمام عواصم الإقليم والعالم ذات الصلة، يتمحور حول شكل الحكومة الجديدة، وطبيعة الائتلاف الذي سيشكلها، وحدود التغيير الذي سيطرأ على السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية للحكومة السادسة لـ «ملك إسرائيل».
فوز ائتلاف أحزاب اليمين في الانتخابات بـ «64» مقعداً من إجمالي مقاعد الكنيست الـ «120»، يعطي نتنياهو هامشاً من حرية الحركة، ويضع بين يديه، سيناريوهات عدة، يمكن أن يلجأ إليها عندما يُكلف رسمياً من رئيس الدولة بتشكيل الحكومة.
أول هذه السيناريوهات؛ تشكيل حكومة يمين ديني -قومي مصغرة، تستند إلى النتائج المُبْهرة التي حققها معسكره، لكن تطوراً كهذا، بدأ يثير قلق عواصم عربية ودولية قبل أن يرى النور، واشنطن قلقة، وكذا بروكسل وبعض عواصم المسار الإبراهيمي، والأرجح من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وغيره من المراقبين، أن نتنياهو لن يقامر بوضع عنقه بين مطرقة بن غفير وسندان سموترتيش، فهو يعرف أن خياراً كهذا، سيكون مكلفاً لحكومته ومستقبله السياسي كذلك.
السيناريو الثاني؛ حكومة يمين موسعة، وأظنه يحظى بأرجحية لدى نتنياهو، إن هو تمكن من إقناع أحزاب يمينية أخرى، في معسكر «التغيير» بزعامة يائير لابيد، بالانضمام إلى حكومته، إلى جانب الحركة الصهيونية الدينية، أو كبديلٍ عنها إن اقتضت الضرورة ذلك...هنا تتجه الأنظار أولاً، إلى حزب المعسكر الرسمي/الوطني (12 مقعدا) الذي يضم كلا من بيني غانتس، وجدعون ساعر (الليكودي القديم) والجنرال غادي إيزكنوت، لكن الباب سيبقى «موارباً» لأفيغدور ليبرمان على رأس حزب إسرائيل بيتنا (5 مقاعد).
أما السيناريو الثالث؛ غير المرجح، فالذهاب إلى حكومة وحدة وطنية، ألمح إليه نتنياهو بعد فوزه في الانتخابات، من دون أن يشدد عليه، لكن ثمة فجوة واسعة تباعد ما بين الرجلين (لابيد ونتنياهو) على المستوى الشخصي، وما بين الحزبين، في القضايا الداخلية بخاصة، قد تجعل من خيارٍ كهذا، أمراً مستبعداً، وليس ثمة إحساس لدى نتنياهو بالحاجة الضاغطة التي تملي عليه تقديم كثيرٍ من التنازلات، سيما وأن الرجل تنتظره مهمات جسام، تتعلق بالسيطرة على المحكمة والقضاء والمؤسسات، كأي زعيم شعبوي آخر.
في السياسة، ليس ثمة فوارق جوهرية بين يمين الائتلاف المرشح لتشكيل الحكومة، واليمين المنضوي تحت قيادة لابيد...الخلاف ينحصر حول شخص نتنياهو، ودوره «المزعزع» للديمقراطية وسيادة القانون وفصل السلطات، وأسلوبه الاستعلائي الذي يتمحور حول شخصه بالأساس...وبصرف النظر عن المرجعيات الإيديولوجية لأحزاب اليمين التي تغطي أكثر من ثلثي مقاعد الكنيست الجديد، إلا أن مواقفها الأمنية والسياسية، تكاد تتلاقى في معظم الملفات...حكومة يمينية موسعة، هي خيار نتنياهو المفضل، ما لم يُفضِ الصراع على السلطة والميزانيات وتقاسم الحقائب الوزارية، إلى ما لا يحمد عقباه، وهو تحدي لا يجوز بحال، التقليل من شأنه.
مخاوف ومحاذير
لم تعرب أي من العواصم المعنية، في الإقليم وخارجه، عن ارتياحها لنتائج الانتخابات الأخيرة...صحيح أنها جميعها نظرت للأمر كقضية داخلية، وعبرت عن احترامها لـ»إرادة الناخبين»، إلا أن معظمها لم يخف في الوقت ذاته، قلقه من انتقال اليمين المتطرف (العنصري) من هامش الخريطة الحزبية الإسرائيلية إلى مركزها، ودائماً في إشارة للحركة الصهيونية الدينية، بوصفها امتداداً لحركة «كاهانا» المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة ودولٍ عدة، والخارجة عن القانون لسنوات طوال وفقاً للقانون الإسرائيلي ذاته.
عودة نتنياهو للسلطة، لم يكن أبداً خبراً ساراً لإدارة بايدن الديمقراطية، وزاد الطين بِلّة أنه عاد إليها على أجنحة التطرف العنصري، الديني والقومي، واشنطن لم تدع مجالاً للشك، بأنها لن تتعامل مع بن غفير والأرجح سموترتيش، كوزراء في الحكومة، بالذات إن تولوا حقائب سيادية كالأمن والدفاع كما يطمحان...العلاقة الإسرائيلية مع إدارة بايدن ستتضرر بنتيجة الانتخابات، وقد تعيد انتاج سيرتها زمن الولاية الثانية لباراك أوباما، حين كان نتنياهو رئيسا للحكومة.
لكن الانتخابات النصفية الأميركية، قد تحمل في طيّاتها أنباءً سارة لنتنياهو، سيما مع توالي الاستطلاعات التي ترجح فوز الجمهوريين بالأغلبية، وربما في المجلسين، فهل يلجأ نتنياهو إلى الكونغرس كـ»شبكة أمان» له في واشنطن لصد ضغوط الإدارة، تماماً مثلما فعل مع إدارة أوباما، أم أن الرجل تعلم «دروس تلك التجربة»، وقد ينتهج سياسة أكثر اتزاناً وتوازناً بين الحزبين الكبيرين، وهل سيساعده حلفاؤه من أقصى اليمين، على أداء المهمة، أم سيضيفون لعلاقته بواشنطن، تعقيدات إضافية؟
حال أوروبا، لا يختلف عن حال الولايات المتحدة، لكن الأولى لا تتمتع بما تتمتع به الثانية، من نفوذ وتأثير في السياسة الإسرائيلية، ونتنياهو سيكون أقل قلقاً من تطورات الموقف الأوروبي، فلديه من الأوراق في بروكسل، ما يكفل تعطيل أية خطوات يمكن أن يلجأ إليها الاتحاد الأوروبي، لمحاسبته أو الضغط عليه، في حال ذهب بعيداً في سياساته الأحادية، ومحاولاته تدمير ما تبقى من رهانات على «حل الدولتين» وعملية السلام.
لكن الأنظار تتجه باهتمام خاص نحو الكرملين، الذي نجح سيده في إقامة علاقات شخصية وطيدة مع نتنياهو، ولطالما تباهى الأخير بالطابع الشخصي لهذه العلاقة، وهو زار موسكو أكثر من أي عاصمة أخرى، وعقد لقاءات مع بوتين، ربما أكثر مما فعل مع أي زعيم آخر...فهل سيتغير موقف إسرائيل من الأزمة الأوكرانية، وهل سيعود نتنياهو بهذه السياسة إلى المربع «الرمادي» بعد أن قطع لبيد شوطاً أبعد في انحيازه للموقف الأمريكي – الأوكراني؟ ...سؤال برسم الأسابيع والأشهر القادمة.
إقليمياً، السلطة الفلسطينية هي الخاسر الأكبر بفوز ائتلاف أقصى اليمين وعودة نتنياهو ودخول بن غفير لأول مرة في الحكومة، رهانات فتح «أفق سياسي» والذهاب إلى مسار تفاوضي ذي مغزى، وترجمة «حل الدولتين»، وهي المحاور التي يتحرك عليها الرئيس عباس، تبخرت اليوم، كما لم يحدث في أي وقت مضى، وحكومة أقصى اليمين، ستصب زيتاً ساخناً على نار الغضب في الضفة الغربية والقدس، وهو غضب متأجج الآن، وغير مسبوق منذ الانتفاضة الثانية، ويهدد السلطة في وجودها وليس في مكانتها فحسب...أما غزة، فقد تعود مجدداً إلى صدارة نشرات الأخبار، من بوابة التصعيد والمواجهة...السلطة التي طالما «نعت» اتفاق أوسلو، قد لا يبقى أمامها من خيارات سوى إهالة التراب على جثته الهامدة.
الأردن، كما السلطة، هبط عليه خبر فوز نتنياهو – بن غفير، كالصاعقة، رغم محاولاته قطع الطريق على عودته، بمبادرات لتفعيل الصوت العربي، وهو أمرٌ فعلته السلطة كذلك من دون جدوى، والأردن الذي خبر القطيعة مع إسرائيل على المستوى السياسي الأرفع في السنوات الثلاث الأخيرة لحكم نتنياهو، يدرك أن علاقته بإسرائيل، ستمر باختبار صعب، إن لجهة التطورات في الميدان الفلسطيني، أو لجهة إجهاض مسار السلام وحل الدولتين، والأهم، لجهة قدرته على ممارسة مقتضيات الرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية والمسيحية.
لبنان الذي بالكاد، أنجز اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، في الهزيع الأخير لحكومة لبيد، يساوره القلق من مغبة تحويل وعود نتنياهو الانتخابية بالانسحاب من الاتفاق أو «تمويته» تدريجياً كما فعل باتفاق أوسلو، والكلام هنا لنتنياهو، ورهانه – لبنان - معقود بالكامل على «الوسيط والضامن» الأميركي، فهل ستنصف إدارة بايدن هذا البلد الصغير المنكوب، أم أنها ستخذله تحت ضغط وثقل العلاقة مع إسرائيل؟
في ظني أن نتنياهو لن يبادر للانسحاب من اتفاق ترسيم الحدود، برغم رفضه له واتهامه لسلفه بالتفريط، وثمة سوابق تدلل على ذلك، فالرجل كان ضد اتفاق الخليل بين حكومة رابين – بيريس وياسر عرفات، لكنه عندما تولى الحكم، عمل على تنفيذه، والأرجح أنه سيفعل شيئاً مماثلاً مع لبنان، لكن المؤكد أن اللبنانيين سيجدون أمامهم، مفاوضاً إسرائيلياً مراوغاً وشرهاً، عند البحث في خطوات تنفيذ الاتفاق.
في حملته الانتخابية، تعهد نتنياهو بتعزيز المسار الإبراهيمي وحفزه، وشدد على اعتبار التطبيع مع السعودية، هدفاً أول لحكومته...ليس متوقعاً لهذا المسار أن يتوقف أو أن ينعكس، ولكن ثمة مؤشرات أولية، تدلل على صعوبة السير على هذا الطريق بالسرعة والحرارة ذاتها، بوجود حكومة إسرائيلية تجلس «ميليشيات» دينية متطرفة على مقاعدها، وكان موقع «واللا» العبري نقل عن أربعة مسؤولين إسرائيليين تحذيرات نقلها عبد الله بن زايد لنتنياهو قبل شهرين، من مغبة الانعكاسات السلبية للتحالف مع بن غفير على العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، وهي المعلومة التي أكدها ديفيد ماكوفسكي في مقالة نشرها معهد واشنطن...أما «اليقظة العربية» على مركزية القضية الفلسطينية في قمة الجزائر، فربما تكون بدورها دلالة ثانية، على أن بعض العرب ربما بدأ يستيقظ من وهم أن التطبيع مع إسرائيل، سيعزز جنوحها نحو السلام، بعد أن اكتشف أنها تطرفت في عامي التطبيع الأخيرين، وجنحت للعنف والعنصرية، كما لم يحدث من قبل.
حكومة يمينية متطرفة، تقود المواجهة مع الفلسطينيين إلى ذروة غير مسبوقة، قد تكون عامل إحراج للدول العربية، حتى أكثرها حماسةً للتطبيع مع إسرائيل، ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان، على الملف الإيراني، بصفحاته الساخنة والمتفجرة.
إيران، وهي النقطة المحورية في تفكير نتنياهو الاستراتيجي، لن يطرأ عليها جديد يذكر، هي خبرت نتنياهو في عدة حكومات، وتابعت جهوده لمنع إدارة أوباما من توقيع الاتفاق النووي عام 2015، وتشجيعه إدارة ترامب للانسحاب من هذا الاتفاق عام 2018، وهي خبرت جهود لابيد – بينيت للحد من اندفاعة إدارة بايدن للعودة إلى الاتفاق، وتعطيل مسار فيينا التفاوضي، والأهم أنها في حالة اشتباك مع حكومات إسرائيل المتعاقبة، في البر (سورية والعراق) والبحر (حرب السفن والناقلات) وفي الفضاء السيبراني والاستخباري وحروب الظلال...نتنياهو لن يفعل غداً أكثر مما فعله بالأمس، والأرجح أن إدارة بايدن ستحذو حذو إدارة أوباما، وستوقع الاتفاق النووي إن نضجت شروطه مطلع العام المقبل، وبخلاف ذلك، لكل حادث حديث.
تركيا، اللاعب الإقليمي الآخر، عبّر رئيسها عن رغبته في استمرار العلاقة مع إسرائيل، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات، وهو بدا مطمئناً إلى كون حكومته قادرة على التعامل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، لكن السؤال مع ذلك يبقى: ماذا إن ذهبت حكومة نتنياهو وأقصى اليمين بعيداً في تصعيدها ضد الفلسطينيين؟...ماذا إن رفعت سقف المطالب التي يتعين على أنقرة أن تستجيب لها، سيما بعلاقتها مع حركة حماس، كيف سيوفق السيد أردوغان، بين رغبته في استئناف وتطوير العلاقة مع إسرائيل، والحرج الذي قد تسببه سياسات الأخيرة، حيال «رعايا» له في «الولايات العثمانية» السابقة؟ سؤال برسم الأيام الحبلى بالتطورات والمفاجآت.