بدأ هذا بصورة توراتية تقريباً؛ راعي أغنام شاب صعد من الوادي يسوق قطيع أغنام في الطريق إلى مزرعة “معون”. تغير مكان الرعي خلال بضع دقائق، وحلت محله الحمى الأمنية، عندما ظهر شخص يشبه مسؤول الأمن الجاري، الذي أتى من مزرعة “معون” بسرعة في سيارة مدرعة، ثم تبعه شخص آخر في سيارة مدرعة أخرى، الذي أحضر معه عدداً من الجنود والضباط. صافح لجنود راعي الأغنام ومسؤول الأمن الجاري، وهمس بعضهم لبعض بوجوه متكدرة. “محظور أن يكونوا هنا”، قال مستوطن.
“هم”، ثمانية أولاد جلسوا تحت أشعة الشمس في ساعات الظهيرة على مدخل قرية التواني الفلسطينية جنوبي الخليل، وانتظروا قدوم جنود الجيش الإسرائيلي لمرافقتهم إلى بيوتهم الموجودة في القرية القريبة- طوبا. هذا إجراء يحدث منذ العام 2004 وهدفه حماية الأولاد من تنمر مستوطني مزرعة “معون” المجاورة. من بين هؤلاء الأولاد الطفلة سجود، التي كتبت عن ما تعرضت له من اعتداء وإصابتها على يد ملثمين قبل سنة تقريباً. كان مع الأولاد متطوعات إيطاليات من منظمة “أوبريشن دوف” وناشطتان في منظمة “محسوم ووتش” وأنا.
بسرعة، اتضح من هو صاحب البيت هنا. “مملات، عجائز”، قال مستوطن للمتقاعدات من “محسوم ووتش”، بعد ذلك تجول بين المتطوعات الإيطاليات الشابات، ووقف بجانب كل واحدة لحظة، ودفع هاتفه في وجوههن. “هؤلاء الناس، السياح، خذ جوازات سفرهن وفي الغد سيكونون على متن الطائرة التي تغادر البلاد”. بعد ذلك، أمر الجنود بـ “الإعلان عن المنطقة بأنها منطقة عسكرية مغلقة، واعتقالهم ورميهم من هناك”. امتثل الضابط وأعلن بأن المنطقة منذ هذه اللحظة هي منطقة عسكرية مغلقة. وطلب من المدنيين إخلاء المنطقة خلال خمس دقائق. سألنا لماذا؟ “لمنع الاحتكاك”، أجاب “ومن أجل الحفاظ على النظام”.
على بعد بضعة أمتار من هناك جلست سجود وصديقاتها مع راحيل ايفك من “محسوم ووتش”، وقمن بمداعبة شعرها ولعبن بنظارتها الشمسية. ايفك تتحدث العربية، وطلبت منها البنات أن تحضر لهن دمية باربي وسلسلة حلويات في الزيارة القادمة. قبل أكثر من أربعين سنة، في 1980، أعلنت دولة إسرائيل بأن قريتهن و11 قرية أخرى مناطق تدريب، ومنذ ذلك الحين وهي تحاول طرد السكان من المكان. في 1999 تم طرد 700 شخص من سكان المنطقة، لكن المحكمة العليا أمرت بعودتهم إلى بيوتهم. في أيار 2022 رفضت المحكمة العليا التماساً قدمته جمعية حقوق المواطن، طلبت فيه إلغاء الإعلان عن المنطقة كمنطقة تدريب، وتجاهل الاستيطان الذي استمر لبضعة أجيال في هذا المكان. بهذا القرار شرعنت المحكمة العليا جريمة الترانسفير، في تناقض صارخ مع القانون الدولي. توجهت منظمة “بتسيلم” مؤخراً لمحكمة الجنايات الدولية في لاهاي على أمل أن يردع تحذيرها العلني إسرائيل عن تنفيذ هذه الخطوة.
في نهاية المطاف تم إبعاد الناشطات والمتطوعات بنداء “يلا”. والأولاد، الذين شاهدوا كيف يختلق الغرباء المسلحون أسباباً لإهانة وإبعاد شخصيات معروفة، مشوا سيراً على الأقدام إلى القرية بمرافقة جندي مسلح وسيارة عسكرية. كل ذلك تحت عنوان “منع الاحتكاك”.
عندما رجعت إلى البيت نظرت إلى الصورة التي ظهر فيها الأولاد والجندي الذي رافقهم. ولكي أنام بهدوء في الليل، فالمطلوب من هذا الجندي التصديق بأن هناك مواجهة متناظرة بين متطوعة مثالية من إيطاليا بنفس عمره والمستوطن الذي وقف قرب جسد المتطوعة أكثر من اللازم بقليل (هذا إذا كانوا ما زالوا يتحدثون عن منع الاحتكاك)، وعليه نسيان أن سكان مزرعة “معون” الذين خدعوه كي يعلن عن المنطقة كمنطقة عسكرية مغلقة لإعادة النظام إلى ما كان عليه، الذي لم يتم الإخلال به قط، وأن هذه البؤرة الاستيطانية غير قانونية حسب القانون الإسرائيلي والقانون الدولي أيضاً- يجب على هذا الجندي الاعتقاد بأنه هل من المعقول أنن يرافق أولاداً إلى بيوتهم حاملاً السلاح بدلاً من اعتقال المجرمين الذين يهددونهم.
أصبح عمر سجود الآن 14 سنة. والملثمون يواصلون مهاجمة سكان تجمعها السكني. الجيش يتدرب بالرصاص الحية قرب التجمع ويعرض حياتها للخطر. أنقاض بيوت والمس بالممتلكات بات عادة يومية. القوة الوحشية التي تسيطر على حياتها لا تشغل العاملين الاجتماعيين ولا يستخدمون اعتبارات رفاهية الطفل. معلم اللغة الإنجليزية محمود، قال لي بأن الجيش وضع مؤخراً دبابة على مدخل مدرسة القرية المجاورة، وأن الجنود الموجودين فيها يصرخون على الطلاب في عمر سجود ويسمونهم كلاباً. “محظور أن يكونوا هنا”، قال المستوطن. عندما يقول “هنا” يقصد الطريق التي تربط بين قرية التواني وطوبا، وبين المدرسة الأساسية والبيت. إلى أين سيذهب هؤلاء الأولاد؟ لا فرق حول ذلك بين الحكومة السابقة والحكومة القادمة. “نريد رؤيتكم تسبحون في المياه”، كتبت داليا رفيكوفيتش قبل سنوات عن حرب أخرى “يسبحون بدون هدف، بدون ميناء، وبدون شواطئ، لا أحد يستقبلكم، أنتم مطرودون، لا يحسب لكم أي حساب”.
هآرتس
