توقفنا، قبل أسبوع، في معالجة عن إسرائيل أولى وثانية، عند صعود دولة المستوطنين في الثانية. ولن نجد، على الأرجح، دلالة أشد بلاغة على غروب شمس الأولى من المقاعد الأربعة، التي حصل عليها حزب العمل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. فالحزب المذكور هو الذي أنشا الدولة، وخاض حروبها، وحكمها قرابة ثلاثة عقود لاحقة، كما هيمن، على، وقاد بالمعنى الأيديولوجي والسياسي، مشروع الاستيطان، ومجتمع المستوطنين، في فلسطين، على مدار عقود طويلة سبقت قيام الدولة.
تبدو نهاية العماليين المُخزية، وحزبهم، بهذا المعنى، تراجيدية تماماً. ومع ذلك، ثمة ما أكثر أهمية من تأمّل مصائر حركات وأحزاب تاريخية سادت ثم بادت. فما يعنينا، الآن، يتمثل في التذكير بأشياء من نوع:
انتقال الدولة من طور إلى آخر، لا يعني انقراض الأول، ولا أن الثاني صفحة بيضاء، بل يعني اختلاط، وتشابك، وتشابه، الأول والثاني، رغم ما بينهما اختلافات، بطريقة تبرر الكلام عن عملية الانتقال نفسها كحالة ملتبسة، ولا تنجو من سوء التقدير والفهم.
ولا أجد ما يفسر دلالة الغامض والملتبس أفضل من كلام ريجيس دوبريه، المفكر الفرنسي، رفيق جيفارا القديم، عن التاريخ الذي يدخل المسرح مقنّعاً بقناع الفصل السابق، فيتخيّل الناس أنهم ما زالوا يشاهدون الفصل نفسه. وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل الثانية، فإن للفشل في قراءة وتشخيص ملامحها وراء قناع الأولى، عواقب وخيمة.
على أي حال، ثمة ما يبرر التعقيب على كلام دوبريه تفادياً لسوء الفهم. فبداية فصل، ونهاية آخر، قد تكون بطيئة، وطويلة، ومتعرّجة في الحالتين، باستثناء الحروب التي تنتهي بهزائم ساحقة فتُولّد دولاً جديدة بالعنف، كما حدث مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية، مثلاً، أو مع فرنسا بعد الاحتلال النازي في الحرب نفسها، وكما حدث بعد ثورات من عيار ثقيل كالبلشفية، والإيرانية، والصينية.
لذا، وبقدر ما أرى، أعتقد أن اغتيال رابين 1995 كان لحظة حاسمة يعثر الراصد، من خلالها، وبأثر رجعي، على ملامح فصل جديد، وراء قناع فصل سبق. ولا يبدو من قبيل الصدفة أن تلك كانت اللحظة التاريخية نفسها، التي شهدت دخول بنيامين نتنياهو حلبة السياسة في إسرائيل، بعد خدمة دبلوماسية قصيرة في أميركا، وتجربة فاشلة في البزنس.
ويصح الكلام، منذ تلك اللحظة، وحتى الانتخابات الأخيرة (2022)، عن فترة انتقالية طويلة، بطيئة، ومتعرّجة، اختلطت فيها الأقنعة، ما بين إسرائيل أولى وثانية. ومع ذلك، لا يصح، في كل الأحوال، التغاضي عن حقيقة أن الانتخابات الأخيرة نفسها نزعت القناع عن وجه الثانية، وقد صارت حقيقة واقعة، لا ينكر وجودها، أو يفشل في رؤية ملامحها، سوى أعمى البصر والبصيرة.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد، فلنتأمل ملامح الوجه الجديد، مع الحفاظ في الذهن على فرضية وردت، في معالجة سبقت، عن كون الثانية تمثل امتداداً للأولى لا قطيعة معها. وفي هذا، من حسن الحظ، ما يقبل التشخيص بالتمثيل والتأويل.
فعالم الاجتماع الإسرائيلي غيرشون شافير، مثلاً، يُفسّر ديمومة احتلال العام 1967، على مدار عقود طويلة، كنتيجة لإحساس النخب الإسرائيلية بأن مشروع الدولة لم يكتمل. والواقع أن تفسيره، هذا، يزوّدنا بطرف للخيط في محاولة لتفكيك العلاقة بين إسرائيل الأولى والثانية.
فإذا افترضنا، والفرض صحيح، أن الأولى لم تنجز مشروع الدولة وحسب، بل ووسعت حدودها، أيضاً. يبدو من المنطقي الافتراض بأن الثانية تأخذ على عاتقها مسؤولية وعبء الحفاظ على ما تحقق من مشروع الدولة، وضرورة استكماله، بينما ينحصر الفرق بينهما في الوسائل المثلى لتحقيق هذا وذاك. وبهذا المعنى نعثر على صلة للوصل لا للفصل.
ومع ذلك، ثمة اختلافات جوهرية في العقليات والأمزجة والتجارب والخبرات بين الأولى والثانية. فالغالبية العظمى من مؤسسي إسرائيل الأولى نشؤوا في، وجاؤوا مِنْ، بيئة أوروبا الشرقية ما بين الحربين الأولى والثانية. شهدوا عن كثب صعود الفاشيات الألمانية والإيطالية، والحريق الذي أشعلته، والمحرقة التي أعدها النازي لليهود الأوروبيين. وقد زودتهم هذه التجارب، وهي مريرة، بنظرة متعددة الطبقات إلى العالم، إضافة إلى مؤهلات ومهارات يصعب إنكارها، بقدر ما يتعلّق الأمر بالسياسة الدولية، وإدارة الصراع مع الفلسطينيين والعالم العربي.
فأين صنّاع إسرائيل الثانية من هذا كله؟ نتنياهو، بن غفير، وسموتريتش؟
وقد نشأ هؤلاء في بيئة دولة يهودية قوية ومستقرة، ومزدهرة، خاصة في العقود الأخيرة. كما شهدوا انتصارها، الذي لا يُقاس في نظرهم بأقل من مفردات قيامية توراتية، كتجربة تكوينية أولى، علاوة على عيش تجربة الاحتلال والسيطرة على شعب آخر، كأمر واقع، ومعطى سابق، وبعض هؤلاء وُلد في مستوطنات، ويقيم فيها. ومن المؤكد أن التجارب التكوينية لآبائهم، وأجدادهم، لا تمارس دوراً مركزياً في صياغة علاقتهم بالعالم.
وإلى هذا كله، تضاف حقيقة غير مسبوقة، وذات نتائج وتداعيات لا تقل قيامية عن حرب 1967، أعني تفكك وتحلل الحواضر العربية، اللذين تسارعا على نحو خاص منذ اندلاع الموجة الأولى لثورات الربيع العربي، وصعود إسرائيل كدولة إقليمية مُقررة في سياسات الشرق الأوسط، وحامية واقعية ومحتملة لشركائها الإبراهيميين، فوق الطاولة وتحتها، في الحلف الذي يحمل الاسم نفسه.
ما زال ثمة الكثير ممّا ينبغي أن يُقال. فاصل ونواصل.