منذ عشرة أعوام انصبّ اهتمام القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح") على ترقية الاعتراف بدولة فلسطين، من عضو مراقب (بحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012) إلى عضوية كاملة، والمشكلة أن ذلك ظل يأتي على حساب اهتمامها بالتحديات الأخرى التي تواجهها، سواء على صعيد ترميم أحوالها الداخلية، أم على صعيد مواجهتها التحديات الناجمة عن السياسات الإسرائيلية.
المشكلة الثانية، أن القيادة الفلسطينية تفعل ذلك، علماً أنها في مكانة سلطة تحت سلطة الاحتلال، إذ تسيطر إسرائيل على كل شيء في الأراضي الفلسطينية، لا سيما إدارياً وأمنياً واقتصادياً، وحتى على تحركات الرئيس ذاته، بل إنها تصارع السلطة حتى على شعبها (راجع للكاتب في موقع "النهار العربي" مقالة: عن مطار رامون واحتجاج العمال الفلسطينيين: السلطة الفلسطينية عاجزة أمام الإدارة المدنية الإسرائيلية"، 3/9/2022).
أما المشكلة الثالثة، فتتعلق بمجرد ترقية وهم لدى تلك القيادة، فحتى بفرض تأمين موافقة الأمم المتحدة على ترقية الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية، فإن ذلك سيعتبر مجرد شيك لا يمكن صرفه، في واقع تتحكم به موازين القوى، والمعطيات الدولية، وفي واقع باتت فيه إسرائيل في علاقة متميزة، ليس فقط مع الدول الغربية، بل حتى مع الصين وروسيا والهند، ومع دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، رغم انكشاف صورتها أكثر من ذي قبل كدولة استعمارية وعنصرية، تبعاً لديناميتها، وتفوقها في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وأيضاً بالنظر إلى تخلف النموذج الدولتي الذي قدمته السلطة الفلسطينية منذ قيامها قبل ثلاثة عقود، سواء في إدارتها أحوالها أم في علاقاتها مع شعبها، وفي علاقاتها الخارجية.
في الحقيقة، فإن هاجس التحول إلى دولة كان قد راود القيادة الفلسطينية في فترة مبكرة، وقبل إقامة السلطة الفلسطينية (1994)، فعلى خلفية حرب تشرين (أكتوبر 1973) تحول الخطاب السياسي الفلسطيني (الدورة الـ 12 للمجلس الوطني الفلسطيني، 1974) من فكرة تحرير فلسطين إلى فكرة إقامة سلطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967)، وفقاً لنصائح عربية ودولية، وحينها جرى الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. في مرحلة ثانية، وعلى خلفية الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 ـ 1993)، صدر "إعلان الاستقلال الفلسطيني" (الدورة الـ19 للمجلس الوطني الفلسطيني، 1988).
تبعاً لذلك، فإن اتفاق أوسلو (1993) جرى في الإطار ذاته، أو وفقاً لذلك الفهم، أو الوهم، في إمكان إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة، بغض النظر عن موازين القوى وبغض النظر عما إذا كانت المعطيات العربية والدولية تسمح بذلك أم لا، كما بغض النظر عن طبيعة إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية.
هكذا، فبعد انكشاف تنصّل إسرائيل من استحقاقات اتفاق أوسلو المطلوبة منها إزاء الفلسطينيين، برفضها الانسحاب من الأراضي المحتلة (1967)، باعتبارها أن ذلك الاتفاق نص على إعادة انتشار، لا انسحاب القوات الإسرائيلية، وإنه لم يعرّفها بدولة محتلة، والأراضي الفلسطينية كأراض محتلة (وهذه من ثغرات الاتفاق المهمة)، فقد راودت الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (عام 1999) فكرة المبادرة لإعلان دولة فلسطين من طرف واحد، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية لاتفاق أوسلو (مدتها خمسة أعوام)، إلا أنه تراجع عن ذلك بسبب الضغوط أو النصائح الخارجية. وبعد سقوط حكومة نتنياهو (1999)، والذهاب إلى مفاوضات كامب ديفيد2 (2000) مع حكومة باراك، بضغط من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والتي تمخضت عن فشل كامل وأدت إلى اندلاع الانتفاضة الثانية، وبقية القصة باتت معروفة.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
في النتيجة، وبعد ما يقارب عقدين على عقد اتفاق أوسلو، وتعثر الاستقلال الفلسطيني، بإقامة دولة في الضفة وغزة، تم الاعتراف بفلسطين دولة بمكانة عضو مراقب في الأمم المتحدة (نوفمبر 2012) بموافقة 138 دولة (مقابل 9 بينها الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل)، لكن هذا الاعتراف، على أهميته، لم يُترجم على الأرض لضعفه إزاء إسرائيل، ولم تستطع القيادة الفلسطينية تقديم نموذج لدولة متميزة، في بنائها أوضاعها، سياسياً واقتصادياً وإدارياً، وإدارتها علاقتها مع شعبها، مع المعوّقات الإسرائيلية في هذا المجال.
المهم أن معظم جهد القيادة الفلسطينية ظل يتركز على ترقية ذلك الاعتراف إلى دولة كاملة العضوية، بخاصة مع جمود المفاوضات مع إسرائيل (في ظل حكومات نتنياهو الذي عاد الى السلطة منذ عام 2009، ما عدا عام 2022)، وهو ما تفعله حتى الآن.
الجدير ذكره في هذا المجال أن القيادة الفلسطينية باتت تتبنى خطاباً سياسياً يختزل الصراع مع إسرائيل بإقامة دولة في الأراضي المحتلة (عام 1967). ففي الدورة الـ23 للمجلس الوطني الفلسطيني (رام الله 2018)، تم تعريف العلاقة مع إسرائيل على النحو الآتي: "علاقة شعبنا ودولته مع إسرائيل، هي علاقة تقوم على الصراع بين شعبنا ودولته الواقعة تحت الاحتلال، وبين قوة الاحتلال... الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، بما انطوت عليه من التزامات، لم تعد قائمة... الهدف المباشر هو استقلال دولة فلسطين، ما يتطلب الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة التي تناضل من أجل استقلالها، وبدء تجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967". وهذا النص كان قد تم إيراده، أيضاً، في مجمل دورات المجلس المركزي الفلسطيني، منذ عام 2015، أي قبل عقد تلك الدورة للمجلس الوطني، وتكرر بعدها.
المشكلة في هذا التوجه أن القيادة الفلسطينية، عدا أنها لا تشتغل ما هو المفروض منها، لترقية أوضاعها، وبناها، وعلاقتها بشعبها، فإنها تتناسى تجربة طويلة ومريرة، وضمنها، مثلاً، تعذر إقامة دولة فلسطينية بموجب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة (رقم 181 لعام 1947)، وإخفاق محاولة إقامة "حكومة عموم فلسطين" (برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي وتأسست في عام 1948)، بعد النكبة، إذ لم يمكّن النظام العربي الفلسطينيين من حكم أنفسهم، في الضفة التي كانت تتبع للأردن، وغزة التي كانت تتبع لمصر.
أيضاً، ثمة عشرات القرارات التي صدرت حتى عن مجلس الأمن الدولي، وظلت حبراً على ورق، وضمنها قرارات تتعلق بإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، ومنها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397 (آذار/مارس 2002)، وصولاً إلى القرار 2334 (2016).
باختصار، لا جديد تحت الشمس في ظل الظروف الحالية، سوى أن الفلسطينيين إزاء وهم جديد، أو ملهاة جديدة، فلا جديد ما دامت القيادة الفلسطينية متشبثة بالسلطة، ولا تشتغل على التحديات الأساسية التي تواجهها، أو لا تمهد الطريق لشعبها للاشتغال عليها.