لم ينجُ أحد

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم عاطف أبو سيف

 

 

 

هكذا يمكن اختصار ما حدث في مخيم جباليا حين اندلعت النيران بإحدى الشقق في منزل عائلة أبو ريا. جميع مَن في البيت لقوا حتفهم في حادث مأساوي بشع؛ حيث أتت النيران على كل المتواجدين في الشقة، والذي صدف أنهم كل أفراد العائلة التي تسكن المنزل، والأخت القادمة مع أطفالها للزيارة.
المشهد مربك ومحزن ومفجع. عائلة بكاملها تحترق، ولا توجد فرصة واحدة لمساعدتها رغم جهود الجيران الطيبين الذي هبّوا بأيديهم يحاولون إنقاذ العائلة لكن بلا فائدة. المشهد من قسوته لا يمكن تخيله أو إعادة تركيبه إلا في فيلم سينمائي.
جميع مَن في البيت يموتون ولا ينجو منهم أحد. الكل يسمع صراخهم ولا ينجو منهم أحد. المارون في الشارع يرون النيران تخرج مثل ألسنة من فم تنين خرافي من النافذة ولا يستطيع أحد أن يدخل لإنقاذهم. المرأة تصرخ وهي تستنجد بالجيران من النافذة، ولا يقدر أحد على فعل شيء يخفف من وقع الفاجعة، مثل أن يُنقذ فرد واحد من العائلة، أو يتمكن طفل من القفز، أو سيدة من الهرب. موت محكم التفاصيل للحدّ الذي صار فيه الشعور باليأس من النجاة أكثر مرارة من وقوعه. المشهد لا يغيب عن الأذهان، خاصة أن النيران ظلت تلتهم سكان البيت، فيما الجيران يتجمعون حوله لا يقدرون على صد الكارثة ومنع وقوعها.
يبدو الغوص في التفاصيل مساهمة في الإرباك الذي يلتهم المجتمع؛  في ظل البشاعة التي حدث فيها الأمر. فالصدمة ما زالت تسيطر على الجميع أمام هول ما حدث، خاصة أن جميع مَن في البيت ماتوا. الجريمة بأركانها أكبر من مقدرة الإنسان على الاستيعاب، والقسوة التي تمّت بها أشد وقعاً من محاولة تفكيك المنطق البشري. وبصرف النظر عن الاتجاه الذي يمكن للحقيقة أن تذهب فيه، أي التعرف على حقيقة ما جرى، فإن البشاعة والقسوة لا يمكن الانتقاص منهما. وربما أمام هول ما حدث ليس للمرء إلا أن يتمنى أن يكون ما جرى حدثاً عارضاً، بمعني أنه ناجم عن خطأ إنساني وليس فعلاً دبّر بليل. لأن كونه حدثاً عابراً، نجم عن خطأ بشري، أمر أقل قسوة علينا كبشر من أن نتخيل أن هناك من يستطيع أن يقوم بمثل هذه الجريمة، سواء كانت مدنية أو أمنية أو سياسية. فأن تكون النيران قد أتت بالخطأ خلال احتفال بعيد ميلاد أو بعودة أحد أفراد العائلة من الخارج، أي بمعني أن تكون لمّة فلسطينية عادية مثل تلك اللمّات التي تقوم بها العوائل من وقت لآخر، لهو أقل ضراراً على المجتمع من أن نكتشف أن ثمة قاتلاً أو مجموعة قتلة قد قاموا بمثل هذه البشاعة بالإجهاز على الجد والأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات. نعم هذا مؤلم وحزين؛ لأنه في النهاية لا يخفف من وقع الكارثة، لكنه أقل حدّة، وأقل وقعاً على النسيج الاجتماعي، الذي سيصاب بالعطب لو تبيّن أن ثمة جريمة منظمة أو تصفية تصل حد هذه البشاعة. لذلك فإن كون الأمر مجرد خطأ بشري أقل بشاعة على نفوسنا.
المؤكد أن ثمة عطباً ما لا أحد يستطيع أن يجزم بمصدره أو مكمنه، إلا أنه موجود وقد لا يظهر الآن، لكن رائحته النتنة ستظل موجودة تذكرنا من وقت لآخر ببشاعة ما جرى. إن الأكثر تضرراً من هذه الأحداث هو النسيج المجتمعي، والسلم الأهلي الذي يتدهور من سنة لأخرى. أسباب كثيرة كلها تؤدي في المحصلة إلى تمزيق المجتمع وتعزيز عدم الاستقرار فيه. والمؤكد أننا لسنا بخير بعد كل ما جرى.
ومع ذلك، فإن اللغط والتفسيرات والتأويلات كلها تزيد المشهد إرباكاً، وربما ما يشجع ما يجري هو غياب الموقف من الجهات المختصة، التي إلى الآن استغرقها الأمر أكثر من ثلاثة أيام دون أن يصدر عنها ما يشفي غليل الجماهير الغاضبة والقلقة، وغير الآمنة على حياتها، بعد ما جرى. لا أحد يقول لنا ما جرى أو كيف جرى. لا أقول إن ثمة تفسيراً منطقياً وحقانياً  - كما يقولون - منتظراً من الجهات القائمة في غزة، ولكن على الأقل الناس ينتظرون من يتحدث لهم، ويفسر لهم البشاعة التي تمت بها الأحداث، حتى لا يتم تركهم فريسة للشائعات والتفسيرات المختلفة. من حقهم أن يعرفوا.
بالطبع، المحزن في ذلك أيضاً الفصائل كلها الصامتة والصائمة، والتي اكتفت فقط بنعي ضحايا الحريق، مثلهم مثل رئيس وزراء الباكستان أو رئيس تركيا، وكأن ما جرى لم يتم في البلاد، فهم محزونون ويتألمون لما جرى. لم نشهد موقفاً حازماً من الفصائل يضعها أمام مسؤولياتها في الضغط لكشف الحقيقة. أيضاً منظمات حقوق الإنسان لا تقل صمتاً كأنها ما زالت مندهشة ومصدومة ممّا جرى. لا أحد يتكلم كأنهم ينتظرون الموقف الذي ستصدره الشرطة من أجل أن يتبنوه ويثنوا عليه. ثمة حكمة غائبة في كل ذلك؛ لأن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية، ولا أحد يريد أن يقول الحقيقة أو يضغط من أجل الكشف عنها.
في المحصلة، سيتم ترك الناس والمواطنين المجزوعين ممّا جرى لشائعات وقصص قد لا تكون لها علاقة بحقيقة الحادث المؤلم، وسيتم ترك المناعة المجتمعية للمزيد من الضعف والتآكل؛ لأننا جميعاً غير قادرين على تخيل ما يمكن أن يجلبه هذا من مآسٍ في المستقبل.
حتى أولئك الذين لم ينج منهم أحد لهم حق علينا.