ألقى القس البروفيسور «متري الراهب»، رئيس جامعة دار الكلمة، محاضرة قيمة في متحف محمود درويش، بعنوان: «مداخل جديدة في اللاهوت الفلسطيني»، وقد حاوره نائب رئيس الجامعة، الدكتور إيهاب بسيسو .. ونظراً لأهمية الموضوع وقيمته المعرفية والوطنية، سأحاول تقديم عرض موجز عنه، مستنداً بصورة أساسية للنقاش الثري والعميق بين القس الراهب والمثقف المستنير بسيسو.
وقبل ذلك لا بد من تعريف «اللاهوت»؛ وهو علم يدرس علاقة الله بالإنسان من منطلقات الكتاب المقدس لدى مختلف الكنائس المسيحية، وهو المصطلح العربي المقابل للمصطلح اللاتيني «ثيولوجي»، ويقابله في الدراسات الإسلامية «علم الكلام»، أو «علم التوحيد»، ومؤخراً بدأت الدراسات اليهودية باستخدام المصطلح ذاته.
الأب «رفيق خوري» مؤلف كتاب «اللاهوت المحلي الفلسطيني» يعرّف اللاهوت بأنه: تفكير بشري عقلي يتناول محتويات الإيمان المسيحي عبر منظومة فكرية متناسقة تخاطب العقل والقلب، وهو علم ديناميكي يتغير ويتطور خلافاً للعقيدة، والتي هي مجموعة العقائد المسيحية التي أقرتها الكنيسة رسمياً، وهي ثابتة ولا تتغير ولا تتحكم فيها ظروف الزمان والمكان. واللاهوت ليس حكراً على الإكليروس (رجال الدين)، بل هو متاح للجميع، بمن فيهم العلمانيون، بوصفه علماً أكاديمياً مختصاً.
وتكمن أهمية وقيمة اللاهوت في حيويته وديناميته، خلافاً للأصولية والسلفية، فمثلاً يقول الأب رفيق خوري: «إن الذاكرة تصبح سجناً ما لم تتحول إلى نبوءة»؛ فالتمسك بالماضي بعقلية سلفية متصلبة يصبح عائقاً أمام الانطلاق نحو المستقبل. واللاهوت الفلسطيني ينطلق من خبرة طويلة جداً وثرية جداً، ولكن بديناميكية مرنة تتيح فهم الحاضر والإعداد للمستقبل، بوصفه سياقاً تاريخياً متحركاً، وهذا يعني تجاوز العقلية النصوصية في فهم النص المقدس بتأويل عقلاني منفتح ومرن وعصري.
وقد تطور اللاهوت الفلسطيني في القرن الماضي، ومر في محطات مهمة ساهمت في بلورته، أبرزها ثورة 1936 ومروراً بالنكبة والنكسة والانتفاضة الأولى، وكان مكوناً مهماً وأصيلاً من مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية، ومرادفاً للحراك الفكري الفلسطيني، وجزءاً من لاهوت التحرر العالمي ولاهوت ما بعد الاستعمار. وقد تطور عبر لاهوتيين فلسطينيين، وعبر مؤسسات دينية وثقافية عديدة، مثل مركز اللقاء ومركز الندوة ودار الكلمة في بيت لحم، ومركز السبيل في القدس.
وميزة اللاهوت الفلسطيني أنه ينطلق من فهم ظروف المسيحيين في الأرض المقدسة، ومن فهم البيئة الفلسطينية بكافة مكوناتها وظرفها التاريخي والجغرافي، مستعيناً بخبرة طويلة وغنية مثلتها التجربة المسيحية في فلسطين على امتداد ألفي سنة، متعاملاً مع الديانات الأخرى بعقلية منفتحة وبقراءة نقدية، بما فيها نقد المسيحية ذاتها. والتحدي الذي يواجهه اللاهوت الفلسطيني أنه يعيش ضمن بيئة متحركة تشهد تغيرات كثيرة وعميقة وسريعة، ولا بد من مواكبتها.
ويوضح الراهب أن الكتاب المقدس كُتب في فلسطين، ضمن سياق تاريخي وجغرافي، مؤكداً على ضرورة فهم الكتب المقدسة بما فيها القرآن ضمن سياقها التاريخي/ الجغرافي/ الثقافي.. وهنا تكتسب فلسطين أهمية استثنائية في سياق نشأة المسيحية، وفي تأسيس لاهوت مسيحي فلسطيني منفتح على اللاهوت العالمي، ومتصالح معه.
وهذه النقطة تشكل معضلة في الوقت ذاته، فالحركة الصهيونية قدمت تفسيراً لاهوتياً للكتاب المقدس، بحيث جعلت فلسطين «الأرض الموعودة»، وجعلت من اليهود «الشعب المختار»، ومن هنا انطلقت في مشروعها الاستعماري، أي أن اللاهوت الغربي (المسيحية الصهيونية) وظف النص المقدس في خدمة أهداف سياسية استعمارية، ومن منظور ديني.
واستمراراً لهذا التوظيف، شبّه الإعلام الصهيوني هزيمة الـ67 بالمعجزة الإلهية، وبانتصار داود (اليهودي المسكين) على جالوت (الفلسطيني العملاق)، وظهر في عناوين الصحف الأميركية ما يشير إلى تدخل الملائكة إلى جانب الإسرائيليين.
والحقيقة أن اللاهوت الغربي «الاستعماري» كان قد بدأ مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، والتي أدت إلى نشوب حرب دينية طاحنة أدت إلى انشقاق البروتستانتية عن الكاثوليكية، وهذا الانشقاق قاد إلى نشوء المسيحية الصهيونية. (راجع مقالتي «المسيحية الصهيونية» الأيام، 6-2-2017).
ومن هنا تكمن أهمية اللاهوت الفلسطيني، بوصفه الأقدر على مواجهة الرواية الصهيونية التوراتية المستندة إلى لاهوت غربي استعماري، أي مواجهة الرواية من داخل الرواية، وتفكيك الرواية الاستعمارية وإعادة صياغة الرواية الفلسطينية من داخل الكتاب المقدس، ومن داخل مؤسسة الإيمان المسيحي، وتقديم الرواية الفلسطينية الحقيقية، وبالتالي فإن ما يفعله اللاهوت الفلسطيني ليس مجرد ادعاء ديني وسياسي وتقديم بديل متخيل؛ فاللاهوت ليس ادعاءات أيديولوجية، بل هو علم مختص مبني على أسس متينة.
ومن هذه النقطة يمكن قراءة اللاهوت الفلسطيني ليس بوصفه حركة إصلاح ديني، بل كمدخل لقراءة الهوية التاريخية والوطنية للشعب الفلسطيني (أي لفهم التاريخ الفلسطيني لاهوتياً)، وبوصفه حركة فكرية تأتي في سياق المقاومة والتحرر الوطني، باعتباره لاهوت الشعب المضطهد في مواجهة لاهوت الإمبراطورية، والذي تكرس عبر مختلف الحقب التاريخية ممهداً الطريق للفكر السياسي الكولونيالي القديم والمعاصر. (أي لفهم اللاهوت الفلسطيني ضمن سياقات التحرر الوطني والعدالة الإنسانية من خلال البحث معمقاً في صورة الإنسان المضطهد عبر التاريخ).
وهو ما يعيد إلى الأذهان العلاقة الحيوية بين اللاهوت والجغرافيا، باعتبار اللاهوت حركة فكرية تأملية تسعى إلى تفسير العلاقة بين الله والإنسان، وباعتبار الجغرافيا مساحة للتأويل التاريخي والسياسي لاختبار العلاقة بين الإنسان والإنسان بما يشمل تلك العلاقة من فصول حروب وهيمنة واضطهاد.
اللاهوتيون الفلسطينيون ليسوا مجرد رجال دين منظّرين، بل هم جنود في المعركة الوطنية، وما يقومون به أمر بالغ الأهمية، باعتباره من بين أهم أدوات المقاومة، ومواجهة الرواية الصهيونية، لاسيما أن الحركة الصهيونية اتكأت بشكل كبير على «المسيحية الصهيونية»، التي كان لها الدور الأهم في تشكيل الصهيونية اليهودية الجديدة، وإنشاء إسرائيل، وهي اليوم حركة قوية، ولها حضورها الفاعل، خاصة في أميركا، وهناك نحو 40 مليوناً من أتباع الصهيونية المسيحية داخل أميركا، وما يزيد من خطورتها أنها بدأت تتغلغل في الأوساط المسيحية في أميركا اللاتينية وفي إفريقيا.
فلسطين مهد الديانات السماوية، فيها ولد وعاش المسيح، وبالتالي هي الأحق أن تكون مركز العالم المسيحي، وأن يكون اللاهوت الفلسطيني مصدر الثقافة المسيحية العالمية، ولا يعني هذا جر المنطقة إلى حرب دينية وحرب روايات تاريخية، بل المطلوب دحض «الرواية الصهيونية» وإعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية وحصول الفلسطينيين على العدالة