كلما حدث أمرٌ جلل كواقعة "حريق جباليا،" والذي راح ضحيته عائلة بكاملها 21 شهيداً أو كارثة طبيعية كالأمطار الغزيرة التي هطلت على قطاع غزة مع بدية موسم الشتاء هذا العام، وتسببت في إغراق شوارع القطاع، مما أثار الكثير من التساؤلات والشكوك التي تضج بها صفحات التواصل الاجتماعي حول مدى أهلية سلطة حركة حماس وقدرتها على إدارة شؤون البلاد وأحوال العباد. هذا على المستوى المحلي، أما في الساحات الإقليمية، فهناك متابعات لتيارات الحركة الإسلامية لمشهد حركة حماس السياسي وتجربته في الحكم، كما أنَّ هناك قراءات تحليلية تكتبها أقلامٌ لنخبٍ من الإسلاميين والعلمانيين تتفاوت بين الإشادة ومحاولات التبرير وبين التشهير والتشويه والاستهداف بطريقة "حسداً من عند أنفسهم". وهذه مسائل متوقعة من الأنصار والخصوم على رأي المثل: "حبيبك يبلعلك الزلط، وعدوَّك يتمنالك الغلط".
وهناك أيضاً شيء آخر مغاير، وهو ما تقوم به المراكز البحثية في الغرب من دراسات لقراءة حركة حماس وفهمها كظاهرة إسلامية، ومدى تأثيرها على سياسات ومصالح تلك الدول إقليمياً وعالمياً.
إنَّ ما يهمنا هنا هو مخرجات هذه الدراسات التي يترتب عليها بناء السياسات تجاه الحركة من حيث الرفض أو القبول.
لا شكَّ أنَّ تجربة حركة حماس في الحكم هي واحدة من أبرز القضايا التي لاقت اهتماماً سياسياً واسعاً على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ونالت كذلك تغطيات إعلامية مستفيضة، حيث نُشرت على مدار عقد ونصف العقد مئات الدراسات البحثية والتقييمية، التي تناولت مسيرة الحركة وسياساتها، وقامت برصد فعلها وردِّ فعلها، وما لها وما عليها، وأين أصابت وأين أخطأت؟
لقد تضمنت هذه المتابعة الدقيقة لسلوكيات الحركة في تجربتها الحاضرة في قطاع غزة تقديم إجابة أيضاً على أسئلة أكثر تفصيلاً، مثل: كيف تمكَّنت الحركة من معالجة وإدارة الأحداث المأساوية في حزيران 2007، وكيف تمكنت من السيطرة على تفاصيل تلك المحنة الوطنية؟ وأين وصلت محاولات رأب الصدع الداخلي وجهود المصالحة وإنهاء الانقسام؟ وهل تغيرت حركة حماس أم أنها ما تزال على نفس الممارسات وعقلية إقصاء الآخر؛ باعتبار أنها على "المحجَّة البيضاء"!! ونحو ذلك. وهل نجحت أم أخفقت في إقامة علاقات لها مع دول المنطقة؟ وهل حققت اختراقات على الساحة الغربية للخروج من طوق الحصار المفروض عليها؟ وهل تمكنت من دحض اتهامات الإرهاب الموجهة إليها، وتحقيق التواصل المطلوب مع المجتمع الدولي؟ وكيف لحماس أن تقنع العالم والمجتمع الدولي بالانفتاح والتواصل معها؟
هذا فيض من أسئلة لا تنتهي دارت حولها تساؤلات هذه الوفود الدولية، التي حطت رحالها في قطاع غزة منذ فوز الحركة في الانتخابات التشريعية عام 2006.
نعم؛ ربما جاءت خلاصات الكثير من هذه الدراسات والأوراق البحثية متحاملة أو سلبية، حيث نجحت إسرائيل وماكينتها الدعائية التضليلية (الهسبرة) في شيطنة حركة حماس واتهامها بالتطرف والإرهاب، وفرض شروط ظالمة عليها قبل إجراء أي اتصال معها أو انفتاح عليها، كما جرت العادة في نهج السياسات والعلاقات الدولية.
وبالرغم من توفر القناعات لدي الكثير من هؤلاء الباحثين الغربيين بأن حركة حماس قد تعرضت خلال مسيرتها إلى تآمر دولي وتواطؤ إقليمي ومحاولات متعمدة من قبل الاحتلال الإسرائيلي لتعطيل عملها وإبراز قدراتها، وكذلك ما طالها من مناكفات وظلم ذوي القربي!! إلا أنَّ المواقف والسياسات لم تتغير كثيراً.
لكن.. وهنا موطن الدمع والأسى، فإن كلَّ هذه الضغوطات والعقبات لا يمكنها تبرير حالة التراجع والاخفاق في تقديم "نموذج الحكم الرشيد"، الذي بشَّرت به حركة حماس خلال حملاتها الانتخابية. صحيحٌ؛ هناك ممارسات وأخطاء لا يمكن تجاهلها أو الدفاع عنها، وربما تُحمَّل قيادة حركة حماس كامل المسئولية عنها، ففي السياسة ومشهد الحكم تبقى الإنجازات هي مؤشر النجاح أو الفشل لأي حزب أو أيديولوجيا ترفعها الحركات أو التيارات لتعبئة الجموع وحشد الشارع خلفها.
وعليه؛ فإن حركة حماس خلال مسيرتها المتعثرة لأكثر من 15 عاماً الماضية لا تُعفيها من النقد والكلام، وأن الذرائع لا تكفي للدفاع عن تراجعها وتبرير إخفاقاتها في تحقيق مشهد "الحكم الرشيد"، وهذا معناه أن عليها أن تعيد حساباتها السياسية والأخلاقية، وأن تجري من المراجعات الحركية والتنظيمية وفي مجال علاقاتها العربية والإسلامية والدولية ما يُعين على إقالة عثارها، وتمكينها من الإصلاح والتغيير، وعليها -إن تطلب الأمر- الاعتذار وتحمل الغياب عن المشهد السياسي لحينٍ من الوقت، والتمكين لغيرها عبر العملية الانتخابية من تقديم نموذجه في الحكم، في عملية من التداول السلمي للسلطة تحفظ الأمن والاستقرار وفرص الازدهار. ويمكن لحركة حماس بعد ذلك إعادة انتاج نفسها، والخروج بإطلالة سياسية مغايرة تُقنع الشارع بأهليتها من جديد للظهور في مشهد الحكم والسياسة.
بالطبع؛ كان هناك من الأخطاء ما يمكن تبريره كنقص الخبرة والتجربة السياسية، ولكن أيضاً هناك عجز واخفاقات لا تتحمل وزرها إلا الاختيارات الخاطئة من حيث المكانة والمهنية، وذلك بوضع الكثير من الكوادر والشخصيات القيادية غير المؤهلة في الأماكن التي لا يصلح لها إلا الكفاءات النوعية الخاصة وأصحاب التجارب والعطاءات والجدارة العلمية.
باختصار.. لقد تعثرت حركة حماس في الكثير من اختياراتها للقوي الأمين، وحتى لا أبدو ظالماً في هذا التقييم، فإن هناك من بين من تقلدوا المناصب من أظهروا بأخلاقهم ومهنية عملهم ومستوى نزاهتهم وتعاطيهم بـ"بسياسة الباب المفتوح" مع المواطنين، أنهم أهل للمسؤولية والأمانة.
لقد ظلت حركة حماس قبل انغماسها في مشهد الحكم والسياسة تمثل أملاً كبيراً تعلقت بها أنظار الناس في الشارع الفلسطيني قبل العام 2006 كما يتعلق الحاج بأستار الكعبة طلباً للطهارة والمغفرة والخلاص، وكانوا يرون فيها طوق النجاة من نفق التيه والمظالم، ولكن – واحسرتاه- لم يكن الأمر بأفضل مما كان عليه حكم من سبقوهم من قيادات وأحزاب، بل ربما جاءت الخلاصات في بعض النتائج مخيبة للآمال.
لا يمكننا هنا الدخول في كل التفاصيل، ولكن تكفي نظرة على مؤشر استطلاعات الرأي العام لملاحظة حجم التراجع في الحاضنة الشعبية، وفي فعالية جمهور الأنصار والمؤيدين.
لقد حاولت -وما زلت كأحد رموز الحركة المخضرمين- في إسماع جهات اتخاذ القرار بأخطار المآلات التي تنحدر في اتجاهها الحالة الإسلامية، ونموذجها المفروض في الحكم، ولكني - بصراحة - كنت أشعر مع كل خلل وتراجع أو تكرار للأخطاء أننا كمن ينفخ في قربة مقطوعة، أو يصرخ بأعلى صوته في وادٍ غير ذي زرع!!
إنَّ حجر الزاوية في إصلاح الحالة الوطنية، هو إعادة الثقة للشارع الفلسطيني بأننا ما زلنا قادرين على المراجعة ولمِّ الشمل وتحقيق الإصلاح والتغيير.