على غير المتوقع، لم يسارع بنيامين نتنياهو إلى تشكيل حكومته السادسة، رغم أنه لا يوجد الكثير من الشركاء في الائتلاف الذي فاز بأغلبية مريحة في انتخابات الكنيست الخامس والعشرين، التي جرت مطلع تشرين الثاني الحالي، ورغم أن شركاء الليكود من الحريديم، كعادتهم لم يظهروا الكثير من المشاكل التي تدور عادة حول المطالب الخاصة بتوزيع الحقائب الوزارية، بين شركاء الحكم، بمجرد بدء مداولات تشكيل الحكومة، باستثناء مطلب آرييه درعي زعيم شاس بتولي وزارة المالية، وهو حتى لم يصر عليه، حين فكر نتنياهو بعرضه على بتسلئيل سموتريتش، الذي يبدو أنه ما زال يصر على تولي حقيبة الجيش، وهذا بشكل خاص، ما يعيق حتى الآن الإعلان عن تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
وكما كنا قد استعرضنا في مقال سابق، الأسباب التي لا تجعل الطريق سهلا تماما لتشكيل حكومة نتنياهو السادسة، رغم الأغلبية البرلمانية، ورغم قلة عدد الشركاء، ذلك أن قادة الليكود، في الوقت الذي لم يعارضوا فيه منح حقيبة الأمن الداخلي لإيتمار بن غفير، كانوا على العكس تجاه حقيبة الجيش، حيث يبدو أن لا نتنياهو ولا حزبه الليكود موافقون على منحها لسموتريتش، وهي الحقيبة التي عادة مع «الخارجية» توحي بمكانة اعتبارية لمن يتولاها باعتباره الرجل الثاني أو الثالث في أسوأ الأحوال في الحكومة، وهذا الاعتبار تعزز بوضوح أيام تشكيل حكومات الوحدة، أو حكومات الرأسين، خاصة وأن إسرائيل ما زالت دولة ترتكز في وجودها على قوتها العسكرية، بحيث يعتبر الجيش أهم مؤسساتها على الإطلاق، حتى أنه يمارس كثيراً لاستقلالية ما عن سياسات الحكومة، خاصة حين يكون الاعتبار الأمني ضمن السياق الوجودي، وميزانية الجيش هي أكبر ميزانية بين الوزارات الإسرائيلية.
لماذا يصر سموتريتش أولا على تولي حقيبة الجيش، ولماذا يصر نتنياهو على عدم منحه إياها، هذا هو السؤال المهم، ثم يتلوه سؤال آخر وهو: لماذا فضل نتنياهو الاستجابة لمطالب بن غفير، وعدم الخضوع لمطلب سموتريتش؟ طبعا كما هو عادة، كلما واجه نتنياهو مشكلة، قام بحلها عبر دق الأسافين بين الخصوم، وجعبة الرجل لا تخلو أبدا من «الحلول الخلاقة» في هذا المجال، فرغم أنه كان هو شخصيا من أقنع كلا من بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير بالتقدم للانتخابات في قائمة موحدة بين حزبيهما، الصهيونية الدينية وعظمة يهودية، إلا أن الفصل بين الرجلين عند الشروع في تشكيل الحكومة يعتبر مكسبا لنتنياهو، وهو فعل هذا فعلا، وبعد أن كان بن غفير قد أعلن عقب إعلان نتائج الانتخابات، وبعد ظهور الفتور بين نتنياهو وسموتريتش، أو عدم التوصل لاتفاق بينهما حول مشاركة «الصهيونية الدينية «في الحكومة القادمة، بأنه لن يشارك في حكومة دون سموتريتش، وكان ذلك بمثابة الضغط على الليكود ونتنياهو في مواجهة مطلب سموتريتش الرئيس للمشاركة في الحكومة وهو تولي حقيبة الجيش.
سارع نتنياهو إلى الاتفاق مع بن غفير، وقبل كل مطالبه، الخاصة بتولي حقيبة الأمن الداخلي، وشرعنة المستوطنات العشوائية، خاصة في شمال الضفة الغربية، بل منحه أكثر مما كان يطالب به، حين قام بزيادة صلاحيات وزارة الأمن الداخلي وتحويلها لوزارة الأمن القومي، بتوليها مسؤولية حرس الحدود، الذي يعمل في الضفة الغربية، وعمليا منح نتنياهو كل الصلاحيات المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية لبن غفير، رغم ما أعلنته واشنطن من معارضة مبكرة لمجرد وجود ذلك الرجل في الحكومة، وذلك حتى لا يتنازل لسموتريتش، ويبدو أن السبب لا يتوقف على أو يتجاوز طموحات قادة الليكود في تولي أحدهم تلك الحقيبة، أو في الخشية من الضرر الذي سيلحق بالجيش والأمن الإسرائيلي عموما جراء تولي وزير يدخل الحكومة لأول مرة، وهو متطرف جداً، ولا يمثل حتى حزبا تاريخيا كالليكود أو العمل، يبدو أن هناك أيضا ما شعر به نتنياهو من طموح عند سموتريتش لم يجده عند بن غفير، طموح التقدم نحو الموقع الأول، والشراكة رأسا برأس في الحكومة.
سيجد نتنياهو حلاً في نهاية المطاف، فالمشكلة بسيطة، لن تضطره إلى البحث عن شركاء من خارج إطار الأحزاب التي جلست معه عاما ونصف العام على مقاعد المعارضة، ودخلت معه الانتخابات كشركاء ائتلافيين، والحل يمكن أن يكون في تولي سموتريتش وزارة المالية، كما هو معروض عليه، خاصة بعد أن وقع نتنياهو مع بن غفير اتفاق الشراكة الحكومية، وبذلك يقود نتنياهو حكومته السادسة مع تقليم أظافر سموتريتش، قبل أن تطول وتتسبب «بخرمشته» وله في ذلك سوابق مؤلمة، مع كل من نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان، لكن ثمن هذا الحل، كان ما أظهره نتنياهو من عدم اكتراث باعتراض واشنطن وغيرها من العواصم العربية التي دخلت مع إسرائيل قبل عامين في اتفاقيات التطبيع، ولا حتى مع خبراء الأمن الإسرائيليين.
ويعلم نتنياهو أن زج بن غفير في الأرض الفلسطينية المحتلة، في الوقت الذي يعني فيه إعلان الحرب على الشعب الفلسطيني، فإنه قد يضع حداً لخطورة الرجل الناجمة عن تطرفه وعنصريته عن داخل إسرائيل، خاصة وهو قد رفع شعارات عنصرية ضد العرب الفلسطينيين من مواطني الدولة، وأنه سيدفع بالعلاقة بين إسرائيل وواشنطن إلى البرود، وهذا أمر متوقع مع وجود جو بايدن في البيت الأبيض، لكن نتنياهو الذي سبق له وواجه باراك أوباما وهو الرئيس الديمقراطي الأقوى بكثير من جو بايدن، يشعر بأنه يمكنه أن يواجه بايدن بسهولة أكثر من الرئيس الذي كان بايدن نائبا له، كذلك هو يعرف أن شركاءه في «أبراهام» قد حسموا أمرهم مبكرا، وهم يظهرون من الود له ولإسرائيل أكثر مما كان يتوقع، ورغم كل ما مارسته إسرائيل من قتل خلال العام الحالي، فإنهم لم يترددوا في إظهار كل مظاهر الحب لدولته، بما في ذلك تهنئته شخصيا بعد فوزه بالانتخابات.
عمليا يسلم نتنياهو الملف «القذر»، أي ملف الاحتلال لبن غفير، فإن نجح يكون ذلك نجاحا لحكومته ولليمين عموما، وإن فشل فيكون قد حرقه خارج حدود الصراع الداخلي، لكنه يفعل ذلك بعد أن تحدى الجميع، من معارضة داخلية خاصة بعد منح بن غفير صلاحيات الإدارة المدنية وحرس الحدود، وتحدى الجانب الفلسطيني، الذي سيجد حتى في التنسيق الأمني أمراً في غاية الصعوبة، وتحدى واشنطن بالطبع، وكل ذلك يدل على أنه ذاهب لحرق الأخضر واليابس في المنطقة، فهو يصر على شن حرب مواجهة لا أحد يقف عند حدودها أو طبيعتها، مع إيران وغيرها، لذا فإن التشدد في مواجهة كل الجبهات، أمر ضروري بالنسبة له، قبل أن يدخل تلك الحرب المجنونة، والتي قد تبدأ بلبنان مع حزب الله، حين يتنصل من اتفاقية الحدود المائية الخاصة باستخراج الغاز البحري على الجانبين اللبناني والإسرائيلي.