على مدى الشهور السابقة, والضفة الفلسطينية تشتعل كفاحاً ضد الاحتلال ومستوطنيه, حيث شهدت الضفة تحولاً بيّناً في المواجهة, قد يشي بتحولات أعظم وأشد في وتيرة المقاومة واتساعها, لتضع مستقبل الضفة الغربية والقضية الفلسطينية أمام عنواناً وبحثاً آخر يتجاوز منظور التسوية عبر أوسلو, الذي تثبت الأيام المتلاحقة أنه قد فشل بالمطلق, حيث تنوعت أشكال المواجهة وتطورت بشكل ملموس, فالحجارة تحولت إلى الطعن بالسكاكين, والطعن تحول إلى عمليان دهس, والدهس والجرأة تحولت إلى مواجهة بالسلاح, والسلاح أصبح حاضراً وممكناً في أيدي المقاومين, ومصادر الجيش الاسرائيلي تتحدث عن وجود أكثر من ثلاثمائة ألف قطعة سلاح في أيدي الفلسطينيين, وذات المصادر تقول أن هناك أكثر من مائة ألف رصاصة قد سرقت من مخازن الجيش...!! وعدد القتلى الاسرائيليين يزيد عن معدله في الشهور الأخيرة, والأمن الاسرائيلي فقد مصداقيته ومنطقه, ولم يعد هناك مكان آمن داخل الكيان الصهيوني, وفي ذات الوقت فقد ازداد عدد الشهداء الفلسطينيين, وتعددت المواجهات واقتحام البيوت, وسجل الشباب الفلسطيني جرأة غير عادية في المواجهة الغير متكافئة في السلاح, ولكن هناك تفوق في الإرادة والإقدام, وهناك قوة حاضنة لهذه الإرادة والإقدام من الأم الفلسطينية التي تبارك وتمنح أبنها الموافقة على مواجهته للاحتلال, وتزغرد في استشهاده, وظاهرة الجنازات والتشييع الألفية للشهداء, شكّلت ولا تزال حوافز وحماس متجدد في مواجهة الاحتلال...
هذا المشهد لصور وطبيعة الصراع القائم اليوم يشكّل حالة ارتقاء نوعي في المواجهة, وقد يتحول هذا المشهد الصراعي إلى دخول الشعب الفلسطيني مرحلة انتفاضة جديدة بخصائصها الجديدة والمتشكلة من الواقع الراهن...
جدليـة الوعـي – المقاومـة
وفي ضوء ذلك يتبدّى السؤال...كيف نفهم هذا التحول في المواجهة... وما هي الأسباب والدوافع والعوامل التي أدّت إلى هذا التحول في المواجهة مع الاحتلال...وما هو الجديد...حتى تأخذ المقاومة هذا الشكل الأرقى...؟؟
إن أي محاولة لتحليل وتفسير هذا التحول والتنامي في المواجهة بعيداً عن حالة الوعي الفلسطيني, هي مجازفة سطحية لا ترى في المشهد إلا الصورة المباشرة والمبهرة دون التعمّق في مضمون ومحتوى التحول...فالمقاومة لا تنمو ولا ترتقي من فراغ, وإنما هي انعكاس لحالة الوعي الفلسطيني المتنامي أيضاً, فالمجتمع الفلسطيني ليس حالة ساكنة أو هو معزولاً عن مجريات الأمور من حوله, السياسية والعنفية والاقتصادية, حيث أكدت الأحداث وتؤكّد أن المجتمع الفلسطيني أكثر حيوية وأكثر استجابة للتطورات والتحولات السياسية والعدوانية من استجابة السلطة أو فصائلها, كونه الأكثر اكتواءً بنار الاحتلال, وأكثر عرضة للانتهاكات اللا إنسانية اليومية من ممارسات الاحتلال, وهم الأكثر استشعاراً وتلمساً للفشل السياسي التسووي الذي امتد مساره إلى أكثر من ربع قرن من المراهنات الخاسرة...
إن جدلية الوعي – المقاومة هي التفسير المنطقي والعلمي والموضوعي لحالة الارتقاء للفعل الوطني المقاوم, فلا مقاومة بلا وعي, ولا وعي بلا مقاومة بمفهومها الشامل, فالوعي الوطني بكل تجلياته, ليس إلا انعكاساً لجدلية الواقع بكل تناقضاته الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية, بما في ذلك واقع الاحتلال القائم والجاثم على الأرض والإنسان بكل مظاهره العدوانية والاستيطانية...
وقد يبدو أن السؤال مشروعاً حين يكون على شاكلة "لماذا الآن هذا التنامي وليس قبل ذلك...؟ "
بيد أن الإجابة تكون منطقية حين يكون التفسير بأنّ الفعل الوطني الثوري لا يحدث طفرة...ولا يصنع فجأة...وإنما هو مسار تراكمي يخضع لقانون التراكم كي يصل إلى التحول النوعي والأرقى في المواجهة, ولا يقف هذا التحول إلى نهائيات المواجهة, بل يفتح المجال في المستقبل القريب لتحولات أرقى وأكثر اتساعاً وعنفاً وشمولية على كل المستويات ارتباطاً بديناميات الصراع المفتوح مع الاحتلال...
فشـل التسويـة حافـز للمقاومـة
وإذا كان الوعي الفلسطيني يشكّل دافعاً قوياً لارتقاء ظاهرة المقاومة...فإن الوعي الفلسطيني ليس مجرداً عن الواقع السياسي, فالاعتقاد بأن التسوية قد وصلت إلى نهايات فشلها, وأن رواد التسوية قد وصلوا إلى نهائيات سياساتهم ومراهناتهم الفاشلة,وأن خياراتهم قد تعفنت أمام المجتمع الفلسطيني...
كل ذلك قد ساهم في علمية بحث شاقة لخيارات ليست هي خيارات أوسلو فكانت خيارات تشكيل كتائب جنين – وعرين الأسود...وغيرها في المدن والمخيمات...
قدسيـة الـدم والشهـادة عمـل مقـاوم
إن الدم الفلسطيني وقدسيته في المجتمع الفلسطيني, قد أدّى دوره في صناعة الوعي الفلسطيني, فالدم ليس دماً زائداً يسيل في روافد ومتاهات التسوية السياسية, إنما هو دماً مقدساً يعمّق المشاعر والأحاسيس والعواطف, ويخاطب روح الانتماء للوطن والقضية, ولعل تلك الآلاف من المشيعين في جنازات الشهداء, هي دلالة تقديس الاستشهاد في سبيل الوطن, وتقديس الدم الذي لم يتوقف رافده الأساسي باتجاه الوطن والحق...
مقاومـة الضفـة ومقاومـة غـزة
من نافل القول أن المقاومة ضد الاحتلال, هي مواجهة معه بأشكال مختلفة, ولكن المقاومة تختلف من مكان إلى مكان, ومن شكل إلى شكل ولكل منها خصائصها وصورها وأدواتها المختلفة, الأمر الذي يفتح المجال لسؤال "ما هو المشترك والغير مشترك بين مقاومة الضفة, ومقاومة غزة...؟ " فالمقاومة في غزة تصنعها السياسة المحسوبة وحسابات الفصائل الفلسطينية المتواجدة, وحصراً حسابات وقرارات حركة حماس, ارتباطاً بموقعها المتقدم في بناء القدرات العسكرية من جهة, ومن جهة أخرى بحكم أن حماس تملك سلطة سياسية وأمنية في غزة, مما يجعل المقاومة تأخذ شكل الحرب النظامية وتبادل القذائف والصواريخ وخلافه, مما يجعل هذا الشكل من المقاومة أكثر تهديداً وقتلاً, فعلى سبيل المثال فقد سقط في معركة 2014 أكثر من (2180شهيد) لذلك المقاومة تخضع لاعتبارات عديدة وحسابات مختلفة, مما يعني أن المقاومة فصائلية أكثر منها شعبية, وبالمحصلة غزة تخضع لقواعد لعبة السياسة...
في حين أن المقاومة في الضفة الغربية اليوم تخضع لاعتبارات مختلفة, فمن جهة, فإن الاحتلال جاثم ومباشر في كل مكان ومدينة وقرية وشارع وحارة...مما يجعل الاحتكاك اليومي قائم على أكثر من سبب وصعيد, وفي غياب دور السلطة عن الدفاع عن المواطنين, أو مواجهة قطعان المستوطنين والجيش حين اقتحام المدن والقرى, تتحول المواجهة إلى مواجهة بين الشعب وبين الاحتلال, ولا تخضع لحسابات السلطة ا, الفصائل, بل هي تجاوز لسبات السلطة والفصائل, حيث اختمرت فكرة المواجهة والخروج عن المألوف والتحرر على سياسة السلطة وعلاقتها مع الاحتلال, في هذا السياق, تجذّرت فكرة المقاومة في المجتمع الفلسطيني في الضفة شعبياً وثقافياً واجتماعياً, وأصبح خيار المقاومة الشعبية والمسلحة, خياراً على مستوى المجتمع كله, وليس خياراً له اعتبارات الفصائل والسلطة...
وعليه فإن المقاومة التي تشتعل اليوم ومنذ أكثر من عام في الضفة, هي تعبير وانعكاس لوعي مجتمعي آخذ في التنامي لجهة أن التسوية وأوسلو وصلا إلى الطريق المسدود, وأن الواقع لا يقبل الفراغ, وخيار المقاومة هو الخيار الأكثر استجابة لتطلعات الشعب بأكمله...
إن هذه المقاربة بين مقاومة ومقاومة, لا يخلص إلى ثقافتين أو حالتين من الوعي...وإنما إلى حالتين من الواقع والخصوصية التي تفرض كل منها شكلاً آخر من المقاومة, والمشترك بينهما هو الفعل المقاوم..
معاني ومآلات
إن هذا الارتقاء في فعل المقاومة هو سيرورة متجددة لدى الشعب الفلسطيني, ولكن هذه السيرورة تسير وفق حلقات لولبية فيها التراجع وفيها التقدم, ولكن المنحنى والخط العام هو الصعود والتقدم, وهذا هو حال المجتمع الفلسطيني وحال الأجيال المتعاقبة...
وعليه فإن هذا الارتقاء وتجلياته, يحتاج إلى قراءة الوضع / المحتوى الداخلي للمجتمع الفلسطيني "البينة الوطنية والثقافية – الذاكرة الوطنية – الهوية – الشهداء – قدسية الأرض – المقدسات – المعاناة...إلخ..." هذا هو المحتوى السيسيولوجي والاجتماعي الذي يشكل مصدر المقاومة...
هذه القراءة تقودنا إلى الاستخلاص أن فعل المقاومة لا يخضع لقرارات السلطة أو الفصائل, بقدر ما يخضع للتفاعل الداخلي للمجتمع الفلسطيني في كل أماكن وجوده, وعليه فإن قدرة الكيان على مراقبة أو هزيمة سيسولوجيا المقاومة, أمر في غاية الصعوبة والاستحالة, وهذا الاستخلاص لا يعني انكفاء دور الفصائل أو موتها, بقدر ما يشكّل دافعاً لها في تنظيم فعل المقاومة وهندسة الصراع باتجاه الارتقاء وتحويل العفوي إلى فعل منظم...
إن مشهد الشباب المتحمس للشهادة والفعل المقاوم, والجرأة والإقدام في مواجهة الاحتلال, يعبّر عن أن المقاومة كفعل ورؤية, هي ملكية سيكولوجية واعية, يتوارثها الأجيال, وأن هذا الجيل المقاوم اليوم, وحده الذي سيكتشف آليات وأشكال المواجهة وفق طبيعة وخصائص المرحلة التي يعيشها, ولكن الثابت أن قانون الوراثة ينطبق على الأجيال الفلسطينية والمقاومة, جيل يورث جيل آخر, وانتقال تدرّجي نحو الإمساك بالهدف الأسمى والذود عنه...
في ضوء هذا الوعي بسيسيولوجية المجتمع الفلسطيني وعوالمه الداخلية المقاومة, فإن ظاهرة المقاومة ستستمر في اندفاعاتها وارتقاءها بوتائر لولبية, دون أن تستطيع سلطة رام الله أن توقف مسارها, أو توقف اندفاعاتها مهما امتلكت من أجهزة أمنية, او نسّقت مع الاحتلال, فالتداعي الأخير في فعل مقاومة الشباب المتأجج حماساً ووطنية, قد أثبت عجز السلطة وأجهزتها الأمنية عن وقف هذا التداعي, وقد حاولت السلطة وإعلامها أن تسوّق دوراً لأجهزتها في مقاومة الاحتلال في نابلس أو غيرها إبان الاقتحامات, لتلميع دورها وإبراز وطنيتها, بينما الحقيقة أن هذه الأجهزة لا زالت تلعب دوراً معيقاً لفعل المقاومة, ومعيقاً لارتقاء هذا الفعل إلى انتفاضة شاملة, ولا زال التنسيق الأمني قائماً مع الاحتلال...
إن أحد أهم الدلالات لظاهرة المقاومة, واشتدادها, هي أن نظرية الأمن الاسرائيلي قد عجزت وستعجز عن أداء دورها في منع المقاومة, فلا المدن داخل الكيان في منأى عن الاستهداف من قبل الشباب الفلسطيني المفعم بالإيمان بقضيته, ولا المستوطنات وسياجها قادرة عن الدفاع عن نفسها, ولا الجنود أو المستوطنين يستطيعون حماية أنفسهم, الأمر الذي يشي بأن "الأزمة الأمنية اسرائيلية" تتسع وتتفاقم على مستوى مؤسساتي ومستوى الأفراد, كـ جزء من الأزمة الوجودية للكيان التي تتوضح كل يوم بديناميات داخلية اسرائيلية, وبديناميات المقاومة, ولعل نتائج الانتخابات الأخيرة التي أتاحت للفاشية القديمة الجديدة أن تحقق نجاحات على مستوى الإمساك بدفة المواجهة مع الشعب الفلسطيني, هي أحد تجليات الأزمة الوجودية, فصعود الفاشية ليس إلا عنوان مركزي لتفكك الكيان وصعود أزماته, والمقاومة الفلسطينية واستمرارها يعزز هذا التفكك والتأزّم...