نحن في شهر المونديال «كأس العالم»، 32 دولة من أصحاب السيادة والمكانة المرتفعة في القارات الست، تجتمع في دولة قطر، ترسل إشارات البهجة للعالم، من منا لم يشده شغف المباريات، صحافة العالم وإعلامه أخذت شبه إجازة من الحروب الحقيقية في أوروبا والأزمات المتتابعة الاقتصادية والأوبئة، وجرت خلف اللاعبين ووراء الجمهور الكاسح، الذي وصل إلى نصف سكان الكرة الأرضية “4 مليارات نسمة” يتابعون المباريات يوميًا، الكثير منهم أخذ إجازة وذهب وراء فريقه بالطبول والمزامير المختلفة والأمزجة المتنوعة، نتائج المباريات وموقف الفرق أصبح الخبر الأول في النشرات، وتوارت الكورونا وحرب أوكرانيا ونقص الطاقة والغذاء.
كأس العالم قال عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إنها الحروب الوحيدة التي تنتهي بالهتافات والعناق وتبادل التحيات، وليس بينهم مفاوضات دبلوماسية أو قرارات أممية، وهنا مكمن الغرابة.
يقف بينهم حكم قراراته نهائية ولا يحتمل المراجعة من اللاعبين أو الجمهور بلا تأجيل أو مماطلة، بل الالتزام التام أو الطرد من الملاعب وعقوبات أخرى تنتظر المشاغبين.
ببساطة نحن أمام حدث عالمي يهز العالم، يراه البعض - وأنا منهم - أنه الوريث الشرعي أو المعادل الأخلاقي أو التطور السلمي للحروب، وأضيف أنه حرب حضارية، برغم أنه شبيه الحروب القديمة قبل ظهور الدبابات والطائرات والصواريخ، حروب بالفرسان والسيوف، لكن الفارق بين الحروب القديمة وحرب كرة القدم أو الساحرة المستديرة، الأعجوبة أنها مصدر للبهجة والسعادة للجميع وليس الخوف، والفارق الكبير الأهم عدم وجود خسائر بشرية أو مادية أو تدمير للمدن وحياة الناس، وبرغم أن مونديال قطر تكلف أكثر من 230 مليار دولار، حتى تتمكن دولة صغيرة في الخليج العربي من استقبال فرق العالم المتقدم، وممثلي القارات في أوروبا وآسيا والأمريكتين وإفريقيا وأستراليا، ومن ورائهم ملايين، ملأت المدرجات.
الفرسان القدماء أصبحوا نجوما أو لاعبين يعرفهم العالم شكلا ومضمونا، يقلدهم الشباب في كل الدنيا، بل يتكلمون مثلهم ويفكرون عبر صورتهم، بل إن ثمنهم بالمليارات، وراءهم مخطط فني أو جنرال الملاعب الجمهور المهووس، يعالج معاناة السنين وتعب الحياة والعمل عبر الشغف والبهجة، بعيدًا عن السياسة وتقلباتها والحروب الاقتصادية وأزماتها، ونقص السلع والبطالة ومخاوف من المستقبل، عبر المشاهدة، والانغماس وراء اللاعبين والهتافات في المدرجات.
جماهير الكرة في الملاعب ووراء الشاشات، نسيت الكورونا والحرب في أوكرانيا، والشتاء البارد والمقبل، مع نقص الطاقة والغاز والندرة في السلع الغذائية، والأزمات المرتقبة التي تعقب الحروب وكوارثها التي تهدد أوروبا والدول الغنية قبل الدول الفقيرة.
عندما وصلت كأس العالم إلى منطقتنا، كان قد مر عليها 21 دورة سابقة، كانت في أوروبا وأمريكا وآسيا، هي منبع البطولة، ولم تكن منطقتنا الفقيرة البعيدة عن التطورات العالمية، تملك إمكانات المنافسة أو المشاركة، وحصلت قطر على الدورة 22 لأول مرة وبشق الأنفس، بعد 80 عاما.
ولعلنا في منطقتنا العربية سوف نشعر أن قطر قامت بتمثيل رفيع ومرتفع، بل متميز في قابل الأيام، سنعرف حجم التغيير الذي حدث وشمل العالم تجاهنا، وقدمت للعالم أفخم استادات وأجمل المدن وأرحب استقبال، حتى تكتمل المتعة والفرحة والإثارة.
تم بناء قطر كلها من جديد حتى تكون مهيأة لاستقبال جماهير العالم وفرقهم المتميزة ونجومهم اللامعة - ذلك لعمري - تكلفة باهظة وعمل مستمر، وقال البعض إنه من الممكن أن نبني المنطقة العربية كلها بهذه المليارات، وأن نفتح لشبابنا العربي أبواب الشغل والعمل، لكن قطر اتجهت لتجميع العالم ليروا منطقة الخليج العربي، بعد البترول وتزايد الثروة.
إن شباب العالم قد اختاروا بكل وجدانه ورغباته وعقلهم لكي تكون هي الوسيلة التي يجدد فيها شبابه، وأن الإثارة والشغف اللذين ظهرا في ملاعب قطر، سيعيشان طويلا في وجدان اللاعبين والجماهير، وكل من كان خلف الشاشات.
وأيا كان بطل العالم صاحب الكأس السعيدة، فإن شباب العالم هو أول المستفيدين، التفوا حول شغفهم وكرة مستديرة تدور وتلعب في الملاعب العربية، وبين أقدام اللاعبين، هل تستحق الكرة كل هذا الاهتمام والأموال والمتابعة، لا يهم، فهذه آراء لجمهور مازال يرى أنها منبع الإثارة وحبهم، وبعضهم يراها مخزن الفرح والبهجة، لذلك فهي قطعا تستحق ليس الكرة، لكن الجماهير التي حققت هذا الشغف، والشباب الذي التف حولها في كل مكان، صنع منها معجزة حضارية وإنسانية وحربًا ممكنة في ظل أن يسود السلام والمساواة بين الشعوب، مثلما سادت في ملاعب الكرة.
ما حدث في هذا المونديال هدفها حققه في الملاعب، ممكن أن يكون هدفا لحكومات العالم وشعوبها، عبر إسعاد مواطنيها، ولتكن رسالة كأس العالم “المونديال الـ22” لمنطقتنا رسالة سلام وحب لكل الشعوب، ورفض للإرهاب والتطرف والصراعات التي سادت في منطقتنا. رسالة المونديال تقول إن شباب العالم من الممكن أن يتحد لكي يرفض الحروب ويبني المجتمعات والعلاقات السوية بين الناس والأجناس المختلفة، بلا استعلاء أو عنصرية بغيضة أو قتل وحروب عالمية ونووية، قد تحدث بين البشر وتفني البشرية، نبني ونسعى للبهجة والسعادة للجميع.
عن "بوابة الاهرام"