عمّار مفلح، شهيدٌ آخر، ضحيّةٌ أخرى، شاهدٌ آخر، على وحشية أدوات القتل الإسرائيلية، التي تجسّد سياسة القتل دون تهديد.
إعدام ميداني يتكرّر كسياسة في مواجهة الفلسطينيين، ليؤكد أن الفلسطيني مستهدف بوجوده ومستهدف بكرامته، وأمنه، ومصالحه، فضلاً عن أنّ أرضه وتاريخه على هذه الأرض، مستهدف كل الوقت.
يتكرّر السلوك وتتكرّر المشاهد الوحشية، وتتكرّر الإدانات، والمطالبات بالتحقيق وملاحقة المسؤولين، ولكن النتيجة دائماً أن المستوى السياسي والأمني، يقف خلف جنوده، بل ويشجعهم على مواصلة القتل.
المبعوث الأممي للشرق الأوسط يشعر بالفزع، من قتل الشاب مفلح أثناء عراك مع جندي، والحقيقة أنه ضابط، تلقّى الدعم من بيني غانتس وزير الجيش الإسرائيلي، الذي يكرر رفضه القاطع لإجراء أي تحقيق حتى من قبل جهاتٍ إسرائيلية، وليس فقط من جهاتٍ دولية.
بالرغم من ذلك، يعود المبعوث الأممي، ليطالب بتحقيق فوري شامل لكل حالات الإعدام المماثلة، ومحاسبة المسؤولين، لكن مطالباته تذهب أدراج الرياح، ولا تترك له سوى المزيد من العدائية من قبل دولة الاحتلال.
ما زال الفلسطينيون يتذكرون كل يومٍ جريمة اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وكيف رفضت إسرائيل إجراء أيّ تحقيق مستقلّ أو تدخّل في مثل هذه الجرائم حتى لو كان من قبل الولايات المتحدة، والتي تحت ضغوط فاعلة داخلية، سمحت للـ "إف بي آي" بإجراء تحقيقٍ في جريمة اغتيال أبو عاقلة، لكن إسرائيل رفضت ذلك، وستظلّ ترفض أي تحقيقات من قبل أي مؤسسة دولية، أو دولة حتى لو كانت حليفة لها.
الرفض الإسرائيلي لأي تحقيقات دولية، أو حتى داخلية، لا يعني بالتأكيد أنه لا قيمة لمواصلة المجهودات الدولية لإجراء مثل هذه التحقيقات، بل إن استمرار هذه الجرائم، واستمرار إسرائيل في رفض التعاون مع المؤسسات الدولية، يصبّ في اتجاه خلق رأي عامٍ دولي، يتجه بصورة متدرّجة نحو عزل إسرائيل، بما في ذلك الجاليات اليهودية في الخارج.
إسرائيل لا تزال تراهن على تحالفها المتين مع الولايات المتحدة، التي بالرغم من مطالباتها بخفض الصراع، وضبط النفس، وإدانة القتل، والمطالبة بالتحقيق إلّا أنها ترفض وتقاوم أيّ محاولة لتفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية، إزاء التعاطي مع ملف جرائم الحرب الإسرائيلية.
وخلف هذه السياسة الأميركية الحامية لإسرائيل وجرائمها من الملاحقة والمحاسبة يلجأ الأوروبيون للصمت، أو ممارسة النفاق السياسي والأخلاقي، ليتأكد الدور الأوروبي التاريخي الملحق والخاضع للسياسات الأميركية على مختلف المستويات وفي مختلف المجالات.
ليس على الفلسطينيين في هذه الحالة أن يتمسكوا بالمراهنة على تحرّك أميركي أو أوروبي مختلف لإرغام إسرائيل على التوقف عن مواصلة جرائمها، ولكن ذلك يستدعي تكثيف العمل الدبلوماسي والإعلامي، في اتجاه تشكيل رأي عام دولي ضاغط على الحكومات الموالية لإسرائيل.
ثمة جدوى من العمل على جبهة الرأي العام العالمي، فالسياسات الرسمية للدول الحليفة والمتواطئة مع إسرائيل لن تتغير، إلّا بواحدٍ من أمرين: الأوّل، تغيّر موازين القوى على الأرض بما يهدد الاستقرار والسلام في المنطقة، أو تحفيز رأي عام قوي بما يكفي للضغط على السياسات الرسمية.
الحديث عن تغيير موازين القوى، ليس أمراً مستحيلاً، ولا يعتمد على ميزان القوة العسكرية، فلا الفلسطينيون يمكن أن يحققوا مثل هذا التعديل ولا العرب في وارد أن يضعوا إمكانياتهم العسكرية في ميدان الصراع.
تعديل ميزان القوى، يكون من خلال إعادة بناء القوة الفلسطينية عَبر إنهاء الانقسام، والاتفاق على استراتيجية وطنية مختلفة، وتوحيد المؤسسات الوطنية، والقرار والجهد الفلسطيني.
إن كان هذا هو مفتاح التغيير، فإنّ الأمر يذهب إلى الأفق العربي الذي لا نتوقع منه استخدام القوة العسكرية ضد إسرائيل في المدى المنظور وإنما بالمفتاح ذاته ينبغي إقفال كل الأبواب والنوافذ أمام إسرائيل في المنطقة، وتوظيف الإمكانيات الاقتصادية والسياسية للعرب، بما يخدم مصالحهم الخاصة.
هل يمكن أن نتوقع ذلك في ضوء استمرار الدول التي طبّعت علاقاتها بإسرائيل في سياسة التعاون والشراكة، أم أن ثمة إمكانية للتغيير.
أعتقد أن إمكانية التغيير، والعودة عن سياسات واتفاقيات التطبيع ممكنة، لكن حدوث ذلك يتطلب بعض الصبر.
ما يدعونا للمراهنة على ذلك، هو أوّلاً، فشل إسرائيل في اختراق المجتمعات العربية، وقد تزايدت الشكاوى الإسرائيلية من عدائية الشعوب العربية خلال فعاليات "مونديال قطر".
الرفض العربي وغير العربي للوجود الإسرائيلي خلال "المونديال"، يبعث برسالة قوية ليس لإسرائيل فقط وإنما، أيضاً، للأنظمة التي تواصل تمسكها بـ "اتفاقات أبراهام".
عاجلاً أو آجلاً ستدرك تلك الأنظمة، مدى خطورة الاستمرار في سياساتها التطبيعية، في ضوء الرفض الشعبي، فباستثناء الإمارات، ففي كل من المغرب والسودان والبحرين توجد معارضات نشطة وقوية ضد التطبيع.
المراهنة على التغيير لها ما يبرّرها، خصوصاً، وأن العالم كله وليس فقط الدول العربية، لن تتحمّل طبيعة السياسات والممارسات الإسرائيلية، التي تتبناها حكومة بنيامين نتنياهو ـ بتسلئيل سموتريتش ـ ايتمار بن غفير.
هذه الحكومة، تحمل مؤشّرات مرحلة جديدة، مختلفة محكومة بأفكار وسياسات عنصرية فاشية لا تتوقف مفاعيلها وتأثيراتها على الميدان الفلسطيني، وإنما ستترك بصماتها ومؤشّراتها الخطيرة على المستوى الإقليمي والدولي.
في الواقع فإن الشعب الفلسطيني، لا ينتظر فرَجاً من الخارج، فهو يتصدى بكل قوة وبسالة للسياسات الإسرائيلية الإجرامية، الأمر الذي سيفرض على المستويات السياسية والفصائلية الفلسطينية، تغيير نمط التفكير والإقدام على تعزيز منطق المقاومة بكل أشكالها.
لقد ولّى زمن الشكوى من أن إسرائيل تدير احتلالاً دون ثمن، فإن كان الشعب الفلسطيني يدفع ثمن حريته، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيدفع ثمن جرائمه، التي لا تتوقف فقط على ما يجري في الضفة، والقدس، وإنما تطال الوجود الفلسطيني على كلّ الأرض الفلسطينية المحتلة.