قبل أن تطأ قدما الرئيس الصيني شي جين بينج أرض مطار الرياض الدولي لم تقوَ الولايات المتحدة على ضبط ردة فعلها تجاه تلك الزيارة، وقد عبر جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي عن مدى غيظ وانفعال واشنطن حين اعتبر زيارة الرئيس الصيني مثالا على محاولة بكين بسط نفوذها على أنحاء من العالم.
وفي حقيقة الأمر فإن زيارة الرئيس الصيني للسعودية لا يمكن النظر إليها على اعتبارها حدثا عاديا رغم أنها لن تتجاوز الأيام الثلاثة لكن وحيث إن الصينيين أناس عمليون جدا لا يضيعون الوقت في المجاملات فإن برنامج الزيارة التي جاءت بدعوة - أي بمبادرة من السعودية - يؤشر على أهميتها وعلى أنها قد ترسم ملامح جديدة للشرق الأوسط ومن هنا مبعث الانزعاج الأميركي الواضح، وبرنامج الزيارة يتضمن حضور الرئيس بينج ثلاث قمم في الرياض: قمة صينية - خليجية وثانية قمة صينية - عربية والثالثة هي القمة الصينية - السعودية. هذه القمم تناقش تعزيز علاقة الخليج والعرب مع الصين في كل المجالات خاصة بحث أفق التعاون الاقتصادي والتنموي حيث يتوقع أن يتم التوقيع على عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية تصل قيمتها إلى عشرات مليارات الدولارات.
وحقيقة الأمر أيضا أن معظم المراقبين والمتابعين الأميركيين خاصة يعتبرون أن الصين هي المنافس الحقيقي لأميركا الذي يهدد زعامتها المنفردة للعالم وذلك رغم كل الصخب الذي يدور حول الصراع المتأجج منذ شباط الماضي بين واشنطن وموسكو والذي تسبب في اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا وكل محاولات واشنطن لجر الصين إلى دائرة احتوائها على خلفية تلك الحرب باءت بالفشل بما في ذلك محاولة جو بايدن الرئيس الأميركي عبر لقائه الرئيس الصيني الشهر الماضي في بالي باندونيسيا عشية انعقاد قمة العشرين، ما أظهر حجم البرود في العلاقات بين واشنطن والرياض المتواصلة خاصة ما بين الرئيس بايدن وولي العهد السعودي الأمير محمد منذ رفع بايدن في حملته الانتخابية شعاراته المناوئة للسعودية والتي تطرقت لحقوق الإنسان والتي وصلت أوجها برفض السعودية التدخل الأميركي لفرض سعر النفط العالمي عبر السعودية الدولة ذات التأثير الحاسم في منظمة أوبك+.
المهم أن الصين تعرف جيدا نوايا واشنطن وحقيقة شعورها تجاهها وهي لم تبتلع الطعم بل إن الرئيس بينج كان واضحا وأظهر قوة بلاده في تحديها لأميركا حين رفض طرد روسيا من منظمة العشرين، وكان أكثر من ذلك قد أعلن في مؤتمر طشقند قبل عدة شهور بأن الصين وروسيا ترفضان النظام العالمي أحادي القطب الأميركي وأنهما تسعيان بوضوح وصراحة لإقامة نظام أكثر توازنا يستوعب التعدد ويحترم مصالح الدول المختلفة.
والصين لديها إرث وتراث دولي رغم أنها لم تكن طرفا في الحرب الباردة بل هي كانت حتى الحرب العالمية الثانية محتلة من اليابان وبريطانيا وعانت من الاستعمار البريطاني خاصة الذي كان قد سيطر عليها بنشر آفة الأفيون بين مواطنيها وبعد حرب الاستقلال احتفظ بجزيرة تايوان حيث شجع هو ووريثته على صعيد السيطرة الكونية أي الولايات المتحدة نظام تشاي كان تشيك وحزبه الكومنتانغ الحزب القومي الصيني حتى بعد أن انهزم أمام الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونغ على الاحتفاظ بتايوان وللمفارقة التاريخية ظلت أميركا وبريطانيا تحافظان على عضوية الصين الدائمة في مجلس الأمن بما في ذلك حق النقض الفيتو لتلك «الدويلة» الصغيرة باسم الصين الوطنية وهو اسم تايوان في ذلك الوقت إلى أن نجحت الصين الشعبية في ثمانينيات القرن الماضي في انتزاع عضوية الصين في ذلك المجلس من تايوان التي ما زالت واشنطن تحاور ابتزاز الصين بها رغم اعترافها وفق مبدأ الصين واحدة بأن تايوان وكذلك هونغ كونغ المدينة الصينية التي أبقتها بريطانيا خارج حدود الصين الشعبية ملجأ لرجال الأعمال والتجسس الإمبريالي ما هي إلا منطقة حكم ذاتي وليست دولة مستقلة.
والصين لا تخترع لها مكانة دولية اليوم بعد أن صارت عملاقا اقتصاديا فهي بمجرد أن تحررت من الاستعمار وبسبب من وزنها البشري أولا وقبل كل شيء ظهرت مع النظام الشيوعي كمارد دولي لكنها لم تدخل الحرب الباردة، وهي عكس كل الدول الشيوعية لم تخضع لموسكو بل كانت أقرب للدول التي تحررت لتوها من الاستعمار الرأسمالي وكانت دول عديدة قد ظهرت خاصة في أفريقيا وآسيا ومعظمها كانت مستعمرات بريطانية وفرنسية وأوروبا الشرقية التي لم تكن مستعمرات بالمعنى المتعارف عليه في آسيا وأفريقيا بل احتلت من قبل ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية كدول مستقلة.
وفعلا شقت الصين أو قادت بشكل جماعي وديمقراطي يحترم العمل الجماعي بين الدول مجموعة عدم الانحياز من دول ما سمي العالم الثالث التي آثرت ألا تنضوي في إطار واحد من الحلفين الدوليين خاصة بطابعهما العسكري أي حلف الناتو أو شمال الأطلسي الذي ما زال قائما وحلف وارسو الذي قاده الاتحاد السوفياتي مع دول أوروبا الشرقية بأنظمتها الشيوعية.
وكانت القيادة الجماعية التي أحاطت بالصين في مجموعة عدم الانحياز مكونة من الصين اندونيسيا الهند مصر ويوغوسلافيا بقادتها التاريخيين: الصيني شو إن لاي والاندونيسي أحمد سوكارنو والهندي جواهر لال نهرو والمصري جمال عبد الناصر واليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو.
لم تحقق الصين فقط مكانتها الدولية عبر مجموعة عدم الانحياز بل حققت معها المكانة الدولية المرموقة الهند ومصر ويوغوسلافيا ولم تهيمن على أنحاء من العالم كما تفعل الولايات المتحدة بنهب خيرات ومقدرات الدول والشعوب والصين ما زالت ترتكز على نظام مختلط أساسه اشتراكي يقوده الحزب الشيوعي الذي ينطوي تحت لوائه نحو مئة مليون مواطن صيني.
والصين فعلا ستكون رافعة كونية لتخفيف الضغط الناجم عن سيطرة القبضة الأميركية المطلقة على كل دول العالم لهذا من المتوقع أن يؤدي التقدم في دخولها العالم خارج حدودها إلى أن يتنفس الآخرون هواء الحرية حيث نمني النفس أن تكون الحرية التي يتوق لها الشعب الفلسطيني واحدة من ثمرات عالم متعدد الأقطاب عالم ينشأ خارج حدود العالم الأميركي الذي أبقى على كل مظاهر القهر والتمييز بين شعوب العالم وأبقى على أسوأ دولة احتلال وما زال يغطي على جرائم إسرائيل ويمدها بكل السلاح الذي يبقي على جبروتها وهيمنتها على فلسطين والمنطقة والأسوأ أن أميركا تشترط على دول المنطقة ومنهم السعودية أن تمر علاقتها بأميركا بممر إجباري هو إسرائيل وبما لا يهدد تفوقها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط لذا من الطبيعي جدا أن تبحث دول إقليمية مثل السعودية وإيران ومصر وحتى تركيا عن دولة كونية تتعامل معها بندية أكبر وباحترام أكثر مما تفعل الولايات المتحدة الأميركية.
