عن القوة العربية الناعمة

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د عاطف أبو سيف

 

 

 

لا يمكن لحضارة ممتدة في عمق التاريخ مثل الحضارة العربية أن تتخلى عن سعيها في استعادة قوتها الناعمة. والعرب يملكون الكثير من المقومات التي تجعل مثل هذه القوة عنصر تظهير لحضورهم في المشهد الكوني، وهي عناصر تتعدد الاتجاهات والتوجهات والمصادر، فمن التاريخ للدين للمدنية الجديدة. هناك الكثير مما يمكن قوله في هذا المضمار، لكن خلاصة القول فيه هو ما أشرنا اليه في مقالتنا على هذه الصفحة الأسبوع الماضي أننا كعرب بحاجة للعمل على تطوير مقومات قوتنا الناعمة من أجل تطوير قوة حضورنا في السياسة الدولية، وبالتالي تأمين المصالح العربية والدفاع عنها بشكل أفضل.
ما اقترحته الأسبوع الماضي أن هناك الكثير من المقومات التي تجعل الحضور العربي أكثر استعداداً لاكتساب المزيد من التحقق، وهي مقومات مرتبطة بالهوية العربية بداية ثم بالمقدرات الاقتصادية والمالية التي يتحصل عليها العالم العربي، في زمن باتت التكنولوجيا وامتلاكها مقومات مهمة في إبراز الشعوب وحضورها. التاريخ يقول ذلك وشواهد الحاضر تشير إليه بقوة. كنت أتحدث عن مونديال قطر والحضور العربي اللافت أولاً من جهة قوة التنظيم، وكيف انعكس ذلك على صورة العرب ومقدرتهم في تنظيم فعاليات كونية، ومن جهة اخرى النجاحات التي حققتها بعض المنتخبات العربية خلال المسابقة. ثمة شيء ملفت في كل ذلك. شيء لا يمكن التقليل منه، ليس متواضعاً وليس خارقاً للعادة لكنه مثير للإعجاب. أيضاً ارتبط بذلك التفاعل الكبير الذي حظيت به القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال خلال كل المباريات حتى مباريات الدول التي تعتبر معايدة للحقوق الوطنية الفلسطينية والكل يعرفها بشكل جيد. دائماً كان علم فلسطين حاضراً وكان الهتاف لفلسطين حاضراً بقوة. من المؤكد أنه لولا كون المونديال تم بتنظيم عربي لما توفرت تلك المساحة من الحرية التي سيكون عصياً بعد ذلك على أي منظم للمسابقة في المرات القادمة تجاوزها او قمعها. وهذا هو جوهر التأثير الناعم الذي أحدثه تنظيم العرب لمسابقة بهذه الضخامة.
مرة أخرى، فإن البحث عن تعزيز مقومات القوة الناعمة لا يجب أن يعني التخلي عن بحثنا كعرب عن تحقيق سبل القوة الخشنة. القوة الناعمة هي تثوير وتوظيف لكل تلك المقومات الموجودة أساساً في جوهر وتفاصيل الثقافة العربية من جهة، وتوظيف الممكنات الاقتصادية والمالية التي تتوفر للعرب من أجل خلق المزيد من التأثير. بمعنى آخر علينا أن نعيد الاعتبار لحضور الثقافة العربية، سواء أو بداية من اللغة التي يصبو  للحديث بها خُمس سكان الكوكب بوصفها لغتهم المقدسة، أو من خلال العمل على تعزيز حضور الأدب والفن العربيين في المشهد الثقافي العالمي. هناك قصور كبير في فعل ذلك، فالحاجة لترجمة الأدب العربي وتعميمه يجب أن تتم بجهد عربي مشترك وليس عبر مبادرات فردية. أيضاً في المجال الفني هناك قصور في تقديم الأفلام ذات الحكايات العربية من وجهة نظر عربية. ما أقول عنه هنا هو المحتوى الرقمي. لنأخذ نموذجاً صغيراً المحتوى الرقمي العربي على الانترنت يأتي في الترتيب الحادي عشر عالميًا بعد التركي والفيتنامي. هذا شيء صادم فاللغة العربية هي خامس لغة انتشاراً في العالم. ولا يتجاوز هذا المحتوى سقف 1.1 بالمائة، بمعنى أن هذه نسبة المدخلات باللغة العربية على الشبكة العنكبوتية. تتذكرون تقرير حالة المعرفة الصادر قبل أكثر من عشرين عاماً كم كان صادماً، حيث تحدث عن تدني نسبة ما يترجمه العرب للغة العربية مقارنة مع اللغات الحية الأخرى.
هناك الكثير الذي يجب فعله في هذا المضمار وهو مرة أخرى بحاجة لجهد عربي مشترك. إذا كان حقنا نريد للحالة العربية أن تستعيد حضورها ولو تدريجياً، علينا أن نبدأ بما نستطيع وبما لا نختلف عليه وهو قوتنا الناعمة. ونحن نستطيع أن نفعل الكثير في هذا وليس علينا إلا أن نؤمن بمقدرتنا على فعل ذلك، فلا يوجد حضارة غير قابلة للتطور ولا توجد ثقافة مناقضة للاستمرار والنمو. وليست المقولات الاستشراقية حول وجود شيء جيني وفطري في بعض الأديان مثل الإسلام للتطور والمدنية إلا من باب التشويه الذي لا ينسجم مع الدلائل التاريخية. فمن جهة كانت الحضارة الإسلامية ليست الأكثر رقياً وتقدماً في المجال العسكري والاقتصادي بل أيضاً في مجال الأدب والفن، وربما أن الانفتاح والحريات التي كانت تمنح للكتاب في تلك الأزمان الماضية لم تتوفر حتى اللحظة في الحضارة الغربية. ويمكن مراجعة النصوص العربية القديمة وتنوع موضوعاتها وجرأة الطرح والفكر والوصف للوقوف على ذلك. مقصد القول إن الدين لم يكن عقبة يوماً أمام المدنية الحديثة، إذ إن الأساس لو كان كذلك أن تكون كل الأديان في الكفة نفسها وهو ما يكشف عورة الطرح الاستشراقي.
وعليه  فإن جزءاً أساسياً من تعزيز تلك القوة الناعمة هو عدم التخلي عن البحث عن أسباب القوة الأخرى وتحديداً القوة القصوى المتمثلة بامتلاك كل أنوع السلاح في العالم. هذان أمران لا يتعارضان ويجب أن يسيرا بالتوازي من أجل تأمين المصالح العربية. لكن مرة أخرى لا يمكن تحقيق تلك القوة الخشنة دون تنامي قوة الحضور الناعم كمعزز هوياتي ومؤثر غير مكلف من اجل الدفاع بالصورة الحضارية والتنويرية للعرب في المشهد الكوني المتزاحم والمتصارع حول المصالح والمنجزات. القوة العربية الحقيقة هي حاجة وضرورة لا يمكن أن يستقيم حال العرب دونها رغم كونها صعبة المنال بسبب تفرق الحال العربي، ما يجعل تحقيق القوة الناعمة أمراً أكثر إدراكاً لأنه لا يتطلب تنازلات بينية من قبل الدول العربية، ولا توجد عقبات كثيرة في طريق تحقيقه إذا ما تم وضع الخلافات السياسية الواهنة جانباً.