يَحتمل هذا السؤال الإجابة بنعم للمرة الأولى في مسيرة هذا الرجل على مدى كل المراحل التي مرّت بها هذه المسيرة.
عرف نتنياهو بقدراته العالية في مجال التلاعب والمناورة، وفي مجال كل أشكال الخداع «المقنع»، كما عرف بتميزه في مجال الخطابة، وفي التعامل مع «الجمهور»، وكذلك في «فنون» التعامل مع وسائل الإعلام على وجه الخصوص.
ويُشهد له، أيضاً، من قبل المؤيدين له، ومن قبل المعارضين لنهجه ووسائله وتكتيكاته بأنه يجمع ويستجمع، يستحضر ويستذكر كمّاً هائلاً من المعطيات الفكرية والسياسية و»التاريخية» في محاولة جرّ المخاطب إلى المساحة التي يريدها، وإلى الساحة المحددة التي يهدف للوصول إليها.
نتنياهو هذا كان دائماً يعرف من أين «تؤكل الكتف»، وكان على الأغلب يعرف كيف يكون مرناً، بل وسائلاً «أحياناً»، و»عملياً» إلى أبعد حدود البراغماتية عندما يقتضي الحال ذلك، وكان يعرف كيف يظهر بمظهر المتزمّت والمتطرّف و»الأيديولوجي» المتشدّد إذا تطلّب الأمر ذلك.
المراقبون الذين تتبّعوا سيرته السياسية في العقود الثلاثة الأخيرة يُجمعون على أنه يستند في تقرير سياسته وسياساته، أيضاً، وفي تطبيق وتحقيق جوهر المنهج الذي كرّسه في هذه المسيرة إلى كل الأبعاد والمعطيات الإحصائية، وإلى المزاج «الجماهيري»، وإلى عوامل التأثير المتبادل بين كل عناصر ومكوّنات الحالة في اللحظة المعينة، الداخلية والخارجية، الحزبية والسياسية، النفسية والمعنوية.
وقد استند في العقد الأخير من مسيرته إلى شبكة مركّبة من العلاقات التي تتداخل فيها، داخلياً وخارجياً الاعتبارات «المصلحية» بالاعتبارات السياسية، وحتى الفكرية و»الثقافية» بمراكز القوة والنفوذ.
بكلّ هذه المعاني فإن نتنياهو كان ولا يزال «حالة» خاصة ومميزة في نمط القيادة، وفي «الهيبة» التي استطاع أن يضيفها إلى نفسه، وجعل من هذه الهيبة «هالة»، فاقت الهيبة التي كانت لقادة «اليمين» الإسرائيلي كلهم، بل ووصلت الأمور عند قطاعات معينة من هذا «اليمين» إلى اعتباره من مصاف قيادات «تاريخية» مثل بن غوريون نفسه.
واستطاع نتنياهو على الدوام «التخلص» من خصومه في المعسكر «اليميني»، وفي «حزب الليكود»، وأن يبني له «قلعة» صلبة من المؤيدين التي باتت بالرغم من فساده ومخادعاته وكل ألاعيبه تتمسك به، لأنه «الأصلب» والأقوى والأنسب والأقدر والأكبر.
«الإجماع» «اليميني» عليه كان بمثابة شيءٍ يشبه «الخوف» على مصير «اليمين» من دون قيادته، ومن دون زعامته المطلوبة لبقاء هذا «اليمين»، ولمصيره، أيضاً.
تحول نتنياهو إلى «أبٍ» فكري وسياسي بعد تجاوز «قدسية» الجيش و»قدسية» القضاء، وبعد أن أقحم الدين بالسياسة، وبتنا أمام حالة، بل وموجة من تديين السياسة، وبتنا أمام «أولوية» اليهودية على الديمقراطية، وأولوية «أرض إسرائيل الكبرى» على أي برنامج سياسي آخر، وما لهذه التجاوزات من انعكاسات كبيرة وخطيرة على بنية «الدولة» الإسرائيلية، وعلى بنية «نظامها» السياسي، وعلى مستقبل هذا النظام.
صورة «الساحر» لم تعد قائمة في هذه الأيام، وتجميع أنصار «إسرائيل الكبرى» يتحول إلى ورطة سياسية لم يحسب لها نتنياهو «كما يجب»، بل وأغلب الظن أن تشكيل الحكومة الجديدة بات أصعب عليه من عدم تشكيلها.
لا أقصد طبعاً من «تشكيل» الحكومة القدرة على إعلانها، أو تشكيلتها من حيث الوزراء ونوابهم، والمناصب والمكاسب، وإنما التبعات التي باتت تهدد «صمودها» والإبقاء عليها.
أظنّ أن نتنياهو يجد نفسه اليوم أمام معادلة جديدة مفادها وجوهرها أنه فقد هامش المناورة الذي كان بارعاً في استخدامه، وكان قادراً من خلال هذا الهامش بالذات على الوصول بحلفائه، والذين هم «خصومه» في مفاوضات التشكيل إلى حافّة الهاوية.
كل فريقٍ من «مكوّنات» التشكيل المطلوب يستطيع أن يُسقط الحكومة إذا لم تتم تلبية مطالبه بالكامل، وكل فريق يتمسك بهذه المطالب لأنه يعرف أن تأثير وبقاء أي مكوّن في هذه الحكومة بات منوطاً بتلبية كل المطالب لكل مكوّن وليس لهذا الفريق أو ذاك فقط!
ولهذا فإننا في الواقع أمام ظواهر غير مسبوقة، وغير معهودة في نظامٍ سياسي له سمات «ديمقراطية» مهما كانت هذه الديمقراطية شكلية أو خاصة أو حتى عنصرية.
الذي يجري في الواقع، ومن أجل «تلبية» مصالح ومطالب مكوّنات الحكومة «القادمة» هو «خصخصة» الجيش و»حصحصة» الأمن، و»ترويض» القضاء.
وحتى يتم ذلك، وهو يتم على قدمٍ وساق، فإن أزمة النظام السياسي في إسرائيل، والتي كتبنا عدة مرّات أنها أزمة بنيوية في طبيعة هذا النظام، نابعة من أزمة المشروع الصهيوني نفسه، حتى يتم ذلك فإن هذه الأزمة ترتدّ الآن إلى الداخل الإسرائيلي ــ كما كتب الزميل والصديق عماد شقّور في مقالته الأخيرة ــ وهي ترتدّ بصورة حادة وكبيرة، ولها من الأبعاد ما هو أخطر من أي أبعاد سابقة.
نتنياهو في الواقع هذه الأيام ينطبق عليه المثل أو القول المأثور حول «الواوي الذي بلع منجل».
فهو إذا رضخ لكل المطالب، ولبّى كل «جشع» «الصهيونية الدينية» سيواجه في الداخل الإسرائيلي ــ على ما يبدو منذ الآن ــ موجات من الاحتجاجات ذات الطابع النوعي والكبير.
وهو إذا حاول التملُّص من «التلبية» الكاملة لهذه المطالب، وكذلك مطالب الأطراف والمكوّنات الأخرى فإن أمامه الانتخابات فقط لا غير، وهي مغامرة أكبر بكثير من أن يلجأ إليها بعد أن «وصلت اللقمة إلى الفم».
وهو إذا ما حاول أو يناور قليلاً أو كثيراً فإن «الصهيونية الدينية» تتظاهر وكأنها ليست معنية بالمشاركة في حكومة كهذه إلّا بالتلبية الكاملة لمطالبها لأنها لا تخشى الانتخابات.
إضافةً إلى أن التلبية الكاملة، و»التجاوزات» الكاملة ستعني حتماً «غضب» قيادات متنفّذة في «حزب الليكود»، سواء أكان ذلك بسبب المناصب والمكاسب من جهة، أم بسبب «خوفهم» على المصير الإسرائيلي كله في ظل تبعات هذه التجاوزات.
وأما المسألة الأهم من ذلك كله فإن نتنياهو لا يمكنه بأيّ شكلٍ من الأشكال «التنازل» عن هدفه الأول والأكبر بإسقاط التهم عن نفسه وعن أُسرته، والذي كان منذ توجيهه التهم همّه الأول والأخير.
تغيّر الزمن الذي كان فيه نتنياهو قادراً على تحويل محاوريه و»خصومه» وأعدائه ومناوئيه وكل «أصدقائه اللدودين» إلى رهائن و»إمَّعَات سياسية»، وانتهى عصر التحكم بهم وبمصائرهم، وبات هو نفسه رهينة، بل وحبيساً للواقع الذي بناه، والذي أشرف شخصياً على ترتيبه وتحضيره.
وقع نتنياهو في فخٍّ نصبه هو بنفسه ولنفسه.
ووقع في شرّ أعماله لأنه أراد الوصول إلى أهدافه بأيّ ثمنٍ حتى ولو كان على حساب إسرائيل نفسها.
حساباته هذه المرّة بدأت خاطئة وانتهت إلى الفشل الذي سيقوّض كل نجاحاته السابقة.