مُرهقة، وتدعو إلى الإحباط، تصريحات الناطقين الرسميين وغير الرسميين للفصائل والسلطات الفلسطينية، بسبب التناقض الشديد بين الأقوال والأفعال.
لا حاجة للدراسات، والحوارات، والمبادرات النظرية للوقوف على طبيعة الأوضاع الفلسطينية أو لتشخيص الواقع، وطرح الحلول العامة.
يشكو د. إبراهيم أبراش من ضعف دور المثقفين الفلسطينيين وتراجعه في معالجة، والتركيز على القضايا الأساسية، وانخراطهم في تناول قضايا وهموم ثانوية، مرتبطة بالجغرافيا.
حقيقة هي شكوى د. أبراش، لكن السؤال هو كيف للمثقفين، أن يرتقوا بإسهاماتهم في الحياة السياسية والاجتماعية، والوطنية العامة، بينما هم كسائر الناس يُلاحقون لقمة العيش، التي تتحكّم فيها بنية سلطوية، لا تراهم جيدين إلّا حين يحملون الطبول والتسحيج، لمن يمسك بمفاتيح الخزنة وقوة البطش؟.
الحقيقة لا ترضي الجميع، وطالما يستشري الخلاف والانقسام والصراع بين المتحكّمين في الخزنة، وقوة البطش، فإن المثقف الوطني الملتزم سيكون بين المطرقة والسندان، مرة يرضى عنه هذا أو يغضب ذاك ومرّة بالعكس.
الثقافة والإبداع، ليس لهما أب أو أم، ومكانهما في ذيل قائمة الاهتمامات بالنسبة للطبقات السياسية العليا.
حين أدانت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، إقدام وزارة الداخلية في غزة، على منع فعاليات لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، من قبل مكتب المفوّض السّامي بسبب الحاجة لتصريح مسبق، اشتعلت منصّات التواصل الاجتماعي، بتغريدات شائنة، واتهامات صعبة لا تليق لا بلغة الحوار وآدابه، ولا بمؤسسة وطنية فلسطينية مستقلة حازت على تصنيف (أ) من قبل المؤسسات الدولية المعنية.
والحال ذاته، أيضاً، حين تستنكر الهيئة، حملة الاعتقالات الواسعة التي أقدمت عليها السلطة في الضفة بحق العشرات من نشطاء وكوادر محسوبين على حركة حماس.
في الأساس فإن دور الهيئة المستقلة وعملها، يستدعي التنويه بما يلزم للانتهاكات التي تقع من قبل سلطات إنفاذ القانون، استناداً إلى القوانين الفلسطينية والمواثيق الدولية التي وقّعت عليها دولة فلسطين، ولا مكان للموقف والرأي الخاص والسياسي للقائمين على الهيئة سواء مجلس مفوضين أو طاقم تنفيذي.
القوانين الفلسطينية لا تشترط الحصول على ترخيص أو إذن مسبق لإقامة أي نشاط سياسي أو فنّي، أو اجتماعي داخل الأماكن المغلقة، وحتى أن تلك القوانين تطلب فقط إشعار السلطات المعنية، حين يكون هناك نشاط في الأماكن العامة يتجاوز المشاركون فيه خمسين إنساناً.
والقوانين الفلسطينية تحظر التعدّي على الحرّيات العامة والشخصية، السياسية وغير السياسية، وتتيح المجال للتعبير عن المواقف السياسية وغير السياسية بحرية تامة وفي حدود الأدب والمصلحة العامة.
الحياة السياسية الفلسطينية، وتداعيات الصراع المرير مع الاحتلال، أعطت الشرعية الكاملة لوجود الفصائل، وهي التي تهيمن على الحياة العامة وتقود الصراع، والمواجهة مع الاحتلال، وتحمل أهداف الشعب الفلسطيني، لذلك لا يمكن أن يكون الانتماء لهذه الفصائل عملاً خارجاً عن القانون يستحق الملاحقة والعقاب.
في تصريحات المسؤولين والناطقين بأسماء الفصائل، يتشدّق الكلّ بأن الإنسان الفلسطيني هو رأس المال الأساسي والحقيقي والثمين الذي تحرص عليه وعلى حقوقه السلطات والفصائل، ولكن الواقع يُشير إلى أن السلطة والامتيازات تتقدم على الإنسان، الذي لا ثمن له حين يُعارض أو ينتقد تلك السلطات.
الكلّ يتحدّث عن خطورة الأوضاع، إثر صعود "اليمين" الديني العنصري الفاشي، على رأس السياسة الإسرائيلية، وبأن قرار الكنيست بمنح إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش صلاحيات واسطة بمثابة إعلان حرب على الشعب الفلسطيني.
حين يستكمل الحديث بعد هذا التشخيص الدقيق تقع المفارقة حيث يستوجب ذلك من الجميع مغادرة مربّع الخلافات الوهمية وإنهاء الانقسام والتوحُّد وجمع كل أوراق القوة الفلسطينية للدفاع عن الشعب والمقدّسات المسيحية والإسلامية.
هذا تصريح علني لناطق رسمي فلسطيني، لكنه، أيضاً، يُعبّر عن موقفٍ عام فلسطيني للمواطن كما للمسؤول، لا يختلف عليه اثنان، ولكن السؤال: لمن يتوجّه بهذه الرؤية؟
الخلاف ليس وهمياً بالتأكيد، إن لم يكن بدلالة الوقائع التي جرت وتجري على الأراضي منذ خمسة عشر عاماً، فعلى الأقلّ بملاحظة حالة الصراع بين القوى والسلطات، من حيث كبت الحرّيات والاعتداء على المناضلين، أو الخروقات التي تقع للقوانين، وقمع حركة المجتمع، والسيطرة على "العمل الأهلي"، ووضع الكثير من العقبات أمامه.
قد لا يعلم المسؤولون، والأرجح أنهم يعلمون تماماً، الهجمة الشرسة التي تشنها إسرائيل، وأدواتها، وحلفاؤها، على "منظمات المجتمع المدني" الفلسطيني، وبالخصوص "منظمات حقوق الإنسان"، التي تتعرض للحصار ومحاولات وقف التمويل، فهل كانت الإجراءات السلطوية الفلسطينية، مسهّلة لعمل تلك المؤسسات أم أنها بإجراءاتها التقييدية تزيد الطين بلّة؟
من الذي يمنع إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة إن كانت الدعوة لمغادرة هذا المربّع تصدر كل الوقت عن الأطراف المنخرطة والمسؤولة عن وقوف واستمرار الانقسام؟
في الواقع فإن ما يصيب الأوضاع والنظام السياسي وغير السياسي الفلسطيني، يثير الغضب والاشمئزاز من حيث عمق الأزمة وخطورة التداعيات، التي تصيب الهياكل العامة من المنظمة، والسلطات إلى الأداء السيئ، الذي لا يليق بقضية عادلة وشعب يتغنّى الجميع، بثباته، وحيويته، وقيمه، وكفاحه التحرّري.
ما الذي يستطيع أن يفعله المثقفون، ولم يفعلوه إزاء استشراء الفساد، والمحسوبية، واستغلال المناصب والمال العام؟ وما الذي يستطيع أن يفعله المثقفون ولم يفعلوه إزاء أزمة منظمة التحرير الفلسطينية التي تعاني الانقسام وضعف وهامشية الدور والمكانة، وغياب الشراكات الوطنية الجامعة.
قد تعاني المنظمة إشكالية، وتراجع دورها لصالح دور السلطة، لكن أين دورها على المستوى الخارجي، وسط مخيّمات اللجوء والهجرة، وإزاء دور سبعة ملايين فلسطيني هم خارج أرض فلسطين التاريخية؟
إسرائيل في أوج صعودها نحو العنصرية والفاشية، ونحو تجريف ما تبقّى من الحقوق والوجود الفلسطيني، والسؤال: ألم يحن الوقت لكي يستجمع الفلسطينيون صفوفهم وأوراق قوّتهم، كما قال أحد الناطقين الرسميين لأحد الفصائل الفلسطينية؟