تشاء المصادفات ...المصادفات فقط أن تتشكل الفصائل الفلسطينية في فصل الشتاء ما بين انطلاقة الجبهة الشعبية في الحادي عشر من كانون الأول حتى الجبهة الديمقراطية في الثاني والعشرين من شباط، بينهما كبرى الفصائل حركة حماس وحركة فتح وكذلك حزب الشعب، وحدها حركة الجهاد الاسلامي اتخذت الخريف موعداً لها لكن جميعهم يحتفلون دون أن يتنازل أحد عن هذا الطقس.
يكاد هذا التقليد أن ينعدم في كل الأحزاب في العالم وربما أن خصوصية اللحظة الفلسطينية تستدعي ذلك، فهي فرصة لسرد التاريخ وللتأكيد على التمسك بالهدف الذي يزداد تباعداً ولشحن الهمم واستزراع الأمل في تربة تزداد وعورة، مع كثير من الاستعراض في المنافسات الداخلية بين القبائل بمقارنات الحضور والمبالغات فيها، مع إضافة هدف وشعار آخر من جدارة التحرير إلى جدارة الحكم، وهذا تحت الاحتلال بما يشبه الاضطراب المفاجئ لمحاولة السير بخطين كل منهما عامل إجهاض للآخر، وفي ذروة الأزمة لم تكتشف الفصائل هذا بعد ما يدفع نحو مزيد من الغرق .
لا يمكن التقليل من أهمية الأحزاب والفصائل، فلا مجتمع سوياً بلا أحزاب ولا ثورة بلا فصائل، ويحسب للفصائل الفلسطينية أنها حاولت بكل ما تملك من قوة وبراءة، ولكن يحسب عليها أنها قادت الحالة بأقل مما يليق بها، وبعقل القبيلة غير الممأسس، وبصراعات كانت السمة الطاغية على المشهد الفلسطيني منذ أن تأسس الحزب السياسي في فلسطين مطلع ثلاثينات القرن الماضي، ليبدأ التنافس بين العائلات المشكلة لها ويلعب الانتداب البريطاني على نقطة الضعف المميتة تلك لتختفي تلك الأحزاب على خراب الوطن، لا يزال المشهد يكرر ذلك بعد تسعة عقود من تلك اللحظة لكن الأسماء تغيرت ولا تزال اسرائيل تلعب على النقطة نفسها .... يا لسخرية التاريخ والواقع.
بين قوى تتحدث عن انجازات وبين واقع غارق في الأزمة هوة كبيرة وتاريخ غني بالتضحيات وواقع فقير بالنتائج، وما بين كبرى الشعارات وكبرى الحقائق الصادمة، يصبح الحديث عن الانفصال عن الواقع هو ما يمكن أن يوصف حالة بدت الفصائل رغم رغبتها وبراءتها الوطنية أسيرة هذا التناقض تحاول جسره بالتاريخ، وتحاول تغطية عورة الواقع باللغة دون الوقوف الجدي أمام حقائق الراهن التالية:
• أن الفصائل الفلسطينية عجزت عن انجاز مشروع التحرير وهو هدف إنشائها ومبرر بقائها، بل إن هذا المشروع يبدو أبعد من لحظة انطلاقة أي منها بل تكرس الاحتلال والاستيطان.
• إن الفصائل الفلسطينية عجزت عن بناء نظام سياسي في اللحظة التي توفرت لها فرصة تجريبية كانت تطلق النار بما توفر لها من امكانيات ضد بعضها بدلاً من الحوار، هذا في غزة نفس المكان الذي تقيم فيه احتفالات الانطلاقات.
• إن الفصائل الفلسطينية عجزت عن انهاء الانقسام لمدة عقد ونصف، وتلك مسألة كانت تختبر جدارتها بالعمل السياسي الداخلي وادارة الشعوب وتصلح لإعطاء علامات الجدارة.
• إن الفصائل الفلسطينية التي توفر لها فرصة للحكم بعد الصراع الدامي بينها كل حكم بمفرده كان يعيد استنساخ التجربة العربية في الدكتاتورية والاعتقال السياسي وغياب القانون.
• إن الفصائل الفلسطينية الحاكمة وبما تملكه من قوات وصلاحيات وسيطرة تحرم المواطن من حقه بممارسة الانتخاب، بينما تعطي هذا الحق لأبنائها فقط الذين ينتخبون داخل أحزابهم التي تغير طوابقها القيادية، أما المواطن خارج القبائل كأنه من الدرجة الثانية لا ينطبق عليه هذا الامتياز وتلك الحقوق.
وما بين حجم التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب بتوجيه ومسؤولية الفصائل وصفرية الانجاز، يبقى سؤال الفعل الفلسطيني الذي تميز في أعوامه الأخيرة بالقفزات الهوائية دون أي تقدم، بل شهد ما يكفي من التراجعات وانغلاق الأفق بشكل لم يشهد له مثيل على امتداد سنوات الثورة الحديثة، ومن الصادم أن نرى أن المسارات التي سارت بها القوى السياسية الفلسطينية وصلت إلى طريق مسدود وتصطدم بالجدار.
تجربة العمل السياسي ومحاولة حل الدولتين توقفت منذ ثماني سنوات مع آخر محاولة للوزير الأميركي جون كيري، وبعدها لم تشهد أي مفاوضات سياسية، وعلى الجانب الآخر تجربة «حماس» المسلحة التي بلغت ذروتها في العام نفسه قبل ثماني سنوات في حرب قاربت على الشهرين لم تحقق أي انجاز تحرري، ولا حتى أقل مثل رفع الحصار عن غزة، وخلال تلك السنوات الثماني تحتفل الفصائل دون أن تتوقف أمام هذا الانسداد الخطير ودون أن تتوقف أمام تشظي الحالة الفلسطينية بمكوناتها، ودون حتى أن تشعر بخطر الحكومة القادمة اسرائيليا التي أخرجها صندوق الانتخابات المعبأ بأسفار التوراة.
ما بدا قائما هو فقط قضايا انسانية يقررها الإسرائيلي بالقطارة للحفاظ على الرأس فوق الماء، ولإبقاء الحالة مشغولة بالحاجات الأساسية وفقاً لهرم ماسلو، وفي ظل منافسة مخجلة بين الأخوة الألداء أحدثت ما يكفي من تآكل في الروح المعنوية للشعب البائس، وتلك رأسمال العملية التحررية وفي ظل واقع يشهد هذا القدر من الانفصام بين قوى لم تكف عن الحديث عن انتصارات متلاحقة، وعن واقع مهزوم تبدو الصورة غير متجانسة جسدتها مجموعات الشباب في الضفة الغربية التي بدأت تشعر بأن الفصائل تتوقف عند الماضي والتاريخ لا الراهن ولا المستقبل، وقد بدأت تلك المجموعات تأخذ على عاتقها ما تراه مناسباً بعيداً عن القائم، وتلك بحاجة لقراءة أخرى أبعد من الاحتفالات وأكثر عمقاً من تسطيح الواقع بالكلام.