تَوُّها، انتهت القمة الأميركية - الإفريقية الثانية التي عقدت في واشنطن من الثالث عشر وحتى الخامس عشر من الشهر الجاري، بمشاركة 50 رئيس دولة إفريقية ووسط اهتمام أميركي شديد ببناء شراكة استراتيجية في مختلف القطاعات مع القارة الإفريقية.
ثمة أسباب كثيرة تدعو واشنطن لإعادة حساباتها بشأن تمكين علاقاتها بالدول الإفريقية، خصوصاً أن الأخيرة تتمتع بكتلة تصويتية قوية في الأمم المتحدة تقل عن ثلث مجموع أعضاء الجمعية العمومية، فضلاً عن اكتنازها بالكثير من الثروات الطبيعية.
إفريقيا التي يناهز عدد سكانها المليار تقريباً غير مخدومة في الكثير من القطاعات وخصوصاً منها الحيوية، إذ تعد بناها التحتية فقيرة وحديثاً دخلت دولة مثل الصين في السوق الإفريقية واستثمرت في العديد من البنى التحتية ضمن مبادرة الحزام والطريق التي دشنتها العام 2013 وشارك فيها معظم الأفارقة.
أهم سبب جعل واشنطن تهرول سريعاً لاحتواء القارة الإفريقية هو التمدد الصيني في هذه القارة وكذلك النفوذ الروسي الذي يحضر بقوة في مسألة تصدير الأسلحة لتلك الدول، ولذلك تجد الولايات المتحدة في عقد هذه القمة أهمية كبيرة لتجسيد شراكة طويلة على مستويات كثيرة.
طبعاً، هذا عدا «الكف» الذي صفع به الأفارقة وجه الولايات المتحدة بعيد التصويت في الأمم المتحدة على إدانة روسيا بسبب الحرب التي تشنها على أوكرانيا، إذ في حين امتنعت عدة دول عن التصويت على قرار يدين روسيا، رفضت دول أخرى في المقابل القرار وانحازت لصالح موسكو.
الأفارقة ينظرون إلى المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة على أنه وريث الاستعمار التقليدي، ويشعر العديد من هؤلاء بالفوقية التي يتعامل فيها الأميركان والأوروبيون معهم خصوصاً في مسألة فقرهم وتخلفهم الصناعي - الأفارقة - والاستثمار والمعونة المشروطة.
إذا أرادت واشنطن أن تكون أهم لاعب في النظام الدولي فلا بد أن تكسب كل الدول في صفها، وهذا ما تفعله بالضبط حينما تقرر استمالة الدول الإفريقية لتحقيق مصلحتها الاستراتيجية المتمثلة في بقائها الرقم 1 في سلم النظام الدولي.
لكن كيف يمكن لواشنطن أن تلعب دور الشريك المهم مع القارة الإفريقية؟ هذا السؤال أجاب عنه الرئيس الأميركي جو بايدن وقت افتتاح القمة، حينما اعترف بإفريقيا لاعبا جيوسياسيا قويا في الساحة الدولية، وحينما خصّص مبلغ 55 مليار دولار لدول القارة السمراء على دفعات لمدة ثلاثة أعوام.
بايدن طرح نفسه على أنه يرغب في تقديم المساعدة في قطاعات مثل الفضاء والصحة والتعليم والبنى التحتية، وتحدث للأفارقة عن استثمارات سخية في المناخ والبيئة والأمن الغذائي، ورفض أن يعتبر الحضور الأميركي في المسرح الإفريقي مزاحما للنفوذ الصيني في المنطقة.
الحقيقة أن الولايات المتحدة تدرك أهمية تصحيح التراجع الذي بدا واضحاً خلال السنوات الماضية بالقارة الإفريقية، واحتواء سرعة التدخل الصيني للسيطرة على القارة الإفريقية من باب التجارة الدولية وتقديم القروض دون فوائد وإسقاط الديون وبناء البنى التحتية هناك.
بسبب هذا التراجع الأميركي في القارة السمراء، تعتبر الصين أكبر شريك تجاري مع الدول الإفريقية منذ تسعة أعوام تقريباً، وبلغ حجم التدفقات المالية من بكين إلى تلك الدول أكثر من 300 مليار دولار، وتتطلع إلى زيادة الاستثمارات في السنوات المقبلة.
لقد تمكنت الصين من كسب الدول الإفريقية إلى جانبها بالبعد الاقتصادي والتجاري، ولم تتدخل في الشؤون السياسية لهذه الدول، وكذلك سهّلت الكثير من القروض دون أي اشتراطات، على عكس الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي كانت تضع البعد السياسي قبل الاقتصادي مثل تعزيز الديمقراطية وضمان حرية الرأي وحقوق الإنسان في المجتمعات الإفريقية.
من الواضح أن الولايات المتحدة تلاحق الصين لمنع توسيع نفوذها في العالم، سواء في بحر الصين الجنوبي أو آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وحتى في القارة السمراء، ولذلك تسعى واشنطن إلى محاكاة النموذج الصيني في كسب ود الأفارقة.
من المرجح أن تكون القارة الإفريقية في الأشهر المقبلة مسرحاً لمواجهة غير مباشرة بين النفوذين الأميركي والصيني تحديداً، ويعتمد نجاح أي منهما على كمية الإغراءات التي يمكن تقديمها للأفارقة، وفي المقابل، لا يهم تلك الدول من المسيطر طالما وأن ذلك ينطوي على تحقيق مصالح جوهرية بالنسبة لها.
هذا يعني أن وزير الخارجية الأميركي بلينكن سيكون أمام زيارات مكوكية إلى عدد من الدول الإفريقية لممارسة القوة الناعمة في سبيل احتوائها وكسبها لناحية المعسكر الغربي، وستعتمد هذه الدبلوماسية على الطريقة التي ستعامل فيها واشنطن القارة السمراء ومدى سخائها مالياً وكيف تصرف دولاراتها.