تمارين ومشاغل ليست لغوية..!!

izhM5.jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

نستكمل، هنا، ما بدأ في معالجتين سابقتين لموضوع المونديال القطري. وينبغي القول، من البداية: إن ما نتكلّم عنه اليوم يكاد يكون سرّاً مفضوحاً، ومفتوحاً، يعلمه أصحاب الاختصاص، ولكن أحداً لا يتكلّم عنه بما يستحق من الصراحة والوضوح، وبالتالي لا يُفسَّر الجاري من الأحداث على خلفية "السر"، بل يشطح به المفسّرون يميناً وشمالاً بعيداً عن مربط الفرس. وهذا يصدق على المونديال، وغيره، بطبيعة الحال. المقصود الدور المتزايد للخليج (بلدان مجلس التعاون الخليجي) في شؤون الإقليم. فما معنى هذا الكلام؟
حاولت تفسير هذا الأمر، وتداعياته علينا، وعلى المنطقة، والعالم، على مدار عقدين من الزمن. وهذا ما تشكّل مقالة اليوم جزءاً منه، وقد حرّض عليها بشكل خاص تعبير "لحظة الخليج"، الذي استخدمه أحد الإبراهيميين، مؤخراً، في معرض تفسير تدخّل بلاده في الحواضر العربية لتحقيق ما أطلق عليه: "الاستقرار والاعتدال".
يُستخدم التعبير المذكور على نطاق ضيّق حتى الآن، ولن يطول الوقت حتى يحتل المتن. ويفيد المعنى نفسه في الكلام عن تعاظم الدور وبشكل متسارع في الآونة الأخيرة. وفي بحثي عن جذور التعبير، ومصادره الأولى، عثرتُ على دراسة لباحثة أميركية، اسمها د. فلورانس غاوب تعمل في مركز الدراسات الإستراتيجية في كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي، وقد صدر البحث بعنوان "لحظة الخليج، العلاقات العربية منذ 2011"، ضمن منشورات المركز في العام 2015.
ولنقل، في البداية: إن لهذه المراكز، خاصة في كليات من هذا النوع، أهمية استثنائية لا من حيث التأثير في طريقة تفكير أوساط معيّنة من صنّاع القرار، وأحياناً تعميم أفكارهم، وحسب، ولكن من حيث تشكيل لغة ومفردات الخطابات ذات الصلة، أيضاً. وإذا كان في أمر كهذا ما يكفي للتدليل على جينالوجيا اللحظة المعنية، فهذا يكفي في الوقت الحاضر.
نعود، الآن، إلى الأخت غاوب وبحثها، الذي يُذكّرنا بسخرية طيّب الذكر إدوارد سعيد من "الخبراء" الأميركيين، الذين لا يعرفون العالم العربي، ولا حتى لغته وتاريخه". ولا يبدو من قبيل المجازفة إلحاق السيدة بقائمة إدوارد السوداء. فالمشكلة أن ثلاثة مُحددات صارمة، ومصادر للتأثير لا غنى عنها، تغيب عن تحليلها لنشأة العالم العربي، وأنظمته السياسية، ومفاهيم كالأمن والنظام الإقليمي العربيَّين. وهذه المحددات هي: الجغرافيا، والديموغرافيا، والتاريخ.
سأحاول بعد الانتهاء من أولويات محددة، التعليق على تحليل السيدة غاوب للعالم العربي. ويكفي، الآن، القول: إن العالم العربي الذي تتكلّم عنه يبدو جثة على طاولة باردة مقطوعة الصلة بالعالم. ففي معرض نشوء "العروبة"، تعود بنا إلى نتائج الحرب العالمية الأولى، وحلم فيصل بإنشاء دولة عربية موّحدة في سورية. ولو كانت على دراية كافية باللغة والتاريخ العربيَّين لعادت بنا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحركة التنوير العربية، والإحياء الثقافي واللغوي الذي مارسه الشوام على نحو خاص، وإلى المعلم بطرس البستاني، وجرجي زيدان، مثلاً.
المهم، تضع السيدة غاوب زلزال الربيع العربي كتاريخ لميلاد "لحظة الخليج"، وتفسّر ذلك بما أصاب مصر من شلل، وبلدان كسورية وليبيا من خراب، إضافة إلى خراب سابق ولاحق حلّ بالعراق. وما أعقب هذا من صعود للإسلاميين، والدواعش. لذا، لم يبقَ واقفاً على قدميه، والكلام لها، سوى بلدان الخليج، التي تجد نفسها مضطرة لملء فراغ القوة، كما تقول: "لا للتعبير عن رأيها فيما يجب أن يكون وحسب، ولكن لفرضه بالقوة المالية والعسكرية، أيضاً".
وهذا كلام كبير، فعلاً، ولا يستقيم دون استدعاء، والرد على، أسئلة من نوع نظرية القوّة الإقليمية ومقوّماتها، أو حتى القوّة المتوسطة middle power (أُطلقتُ في وقت مضى على بلدان كالعراق وسورية). في وسع الدول، والناطقين باسمها، تبني وإطلاق تسميات كثيرة. فالقذافي أسبغ على دولته لقب "العظمى"، ولكن أحداً، ما عدا مَنْ يحكمهم، أو يموّلهم، لم يأخذه على محمل الجد. وفي كل الأحوال، يستحيل صعود قوّة إقليمية دون توفر شرطها الديموغرافي، والجغرافي، والتاريخي.
الشرط الديموغرافي أن تكون لديك قوّة عمل كبيرة وماهرة، ومصادر بشرية لحشد جنود يمكنهم كسب الحروب في الميدان. والجغرافي أن تكون لديك مساحة واسعة من الأرض، ومصادر طبيعية كافية. والتاريخي أن تكون صاحب ذاكرة ومشروع. فكم يتوفر من هذه الشروط والمحددات لتسويغ لحظة بعينها والدفاع عنها؟
وإذا وضعنا، ولأسباب سجالية محضة، كل ما تقدّم، واكتفينا بمسعى تحقيق "الاستقرار والاعتدال" كملامح عامّة لمشروع يسوّغ طموح التدخل في شؤون الآخرين، فإن في ترجمة المفردتين إلى لغة السياسة، وهذه مفارقة موحية فعلاً، ما يرشّح الحواضر العربية لعقود كثيرة قادمة من عدم الاستقرار والتطرّف.
فالاستقرار، حتى بقراءة سريعة للعلاقات السياسية، في الإقليم، على مدار عقد مضى، يعني تكريس أنظمة شمولية فاسدة، وإعادة الاعتبار إلى دكتاتوريات أفقدها الربيع العربي مبررات البقاء، أما الاعتدال فلا يحتمل تفسيراً أبعد من تطبيع العلاقة مع إسرائيل. ولأمر كهذا دلالات سوسيولوجية، وثقافية، وسياسية، وتداعيات بعيدة المدى، وفيها ما يعيد التذكير بالحلف المقدّس الذي شكّلته الرجعيات الأوروبية للرد على ربيع الشعوب الأوروبية في العام 1848.
والواقع أن الربط بين العلاقة مع إسرائيل من ناحية، ومفهوم الاعتدال من ناحية ثانية، لم يتضح بصورة كافية إلا بعد "سلام إبراهيم". ويصعب تفسير ما عرف حتى وقت قريب "بأزمة الخليج"، إلا على خلفية خلافات إبراهيمية بشأن التعريفات المقبولة للاستقرار والاعتدال. فاصل ونواصل.